من غرائب زماننا وعجائبه أن المتهم الأول الذى أدين فى جريمة أكياس الدم الفاسدة هرب من البلاد ويعيش الآن مطلق السراح فى أوروبا، فى حين أن السيدة التى كشفت الجريمة تتعرض لصور متعددة من التنكيل طوال السنوات الثلاث الأخيرة، والأعجب أن التنكيل بها تمارسه قيادات مسئولة فى وزارة الصحة. التى كان يفترض أن تكافئها على يقظتها ونزاهتها حتى يبدو وكأنه أريد لها أن تكون عبرة لكل من تسول له نفسه أن يغرد خارج السرب، ولا يشترك فى التستر على الأخطاء والانحرافات.
هذا الكلام ليست فيه أية مبالغة، ولكننى استقيته مما نشرته جريدة الأهرام على يومين متعاقبين إذ فى 29/4 تحدثت عن بوادر «انفراج فى أزمة» موظفة الصحة السيدة سهير الشرقاوى، التى كشفت عن أكياس الدم. وذكرت أنها علقت اعتصاما كانت قد بدأته فى مقر المجلس القومى للمرأة، بعدما تلقت وعدا بإعادتها إلى عملها فى حسابات وزارة الصحة، قطعه على نفسه مساعد وزير الصحة للاتصال السياسى.
وفى عرض خلفيات الأزمة أشار خبر الأهرام إلى أن السيدة سهير الشرقاوى تم نقلها من قسم المراجعة والحسابات بوزارة الصحة إلى مستشفى الصحة النفسية «الأمراض العقلية»، بعد الإبلاغ عن فساد أكياس الدم بشركة القطاع الخاص التى كانت توردها. وحين تظلمت إلى القضاء الإدارى، فإن الحكم صدر لصالحها بعدم تنفيذ النقل. ولكن مساعد وزير الصحة للشئون الإدارية «لواء سابق!» رفض تنفيذ قرار المحكمة. وزاد على ذلك بأن أصدر قرارا بفصلها بسبب انقطاعها عن العمل فى الجهة التى نقلت إليها.
على صعيد آخر، تحدث تقرير الأهرام عن «مفاجأة» جديدة خلاصتها أن وكيل الوزارة ورئيس الإدارة المركزية بوزارة الصحة «وهو لواء سابق أيضا!» قال إن نقل السيدة سهير الشرقاوى من قسم المراجعة والحسابات تم لسبب آخر، هو أنها تتحمل المسئولية عن ضياع «شيك» تتجاوز قيمته مليون جنيه، وأن ذلك حدث قبل قضية أكياس الدم الفاسدة (لكنه اكتشف مصادفة بعد الإبلاغ عن القضية!).
لم يحدث الانفراج الذى تحدث عنه خبر الأهرام. فنشرت الصحيفة فى 4/5 أن السيدة سهير قدمت بلاغا إلى النيابة الإدارية اتهمت فيه وزارة الصحة بعدم تنفيذ الحكم الصادر بعودتها إلى عملها بديوان عام الوزارة. بعد أن تم نقلها بقرار تعسفى عقابا لها، بسبب إبلاغها عن جريمة أكياس الدم الفاسدة. وذكرت أنها تقدمت بطلب إلى لجنة التوفيق المختصة التى أوصت بإلغاء قرار النقل، إلا أن الوزارة رفضت تنفيذ التوصية. فأقامت دعوى ضد وزير الصحة ورئيس الإدارة المركزية للأمانة العامة بالوزارة، قضى فيها بإلغاء القرار وما ترتب عليه من آثار. لكنها فوجئت بأن إدارة شئون الأفراد أصرت على رفض تسليمها عملها الأصلى. وذكرت فى بلاغها أن الوزارة عرضت عليها العمل فى مركز التكنولوجيا خارج الديوان، بدلا من العمل بمستشفى العباسية الذى كانت قد نقلت إليه.
إذا صح الكلام المنشور فمعناه أن البيروقراطية الحكومية أغضبها قيام السيدة سهير الشرقاوى بالإبلاغ عن واقعة الفساد، فقررت الانتقام منها وإبعادها عن موقعها فى ديوان وزارة الصحة، الذى مكنها من كشف الواقعة.
وهو موقف يثير أكثر من سؤال حول دوافع النقل والمصلحة المتوخاة من ورائه. ومن الواضح أن اللواءين السابقين اللذين يديران المعركة ضدها «ماذا يفعلان فى وزارة الصحة؟» يصران على تحدى القرارات الإدارية والأحكام التى أنصفتها وصدرت لصالحها. من الواضح أيضا أن السيدة مصرة على أن تنال حقها، وهى تستحق من الجميع مساندة وتأييدا، لأن القانون فيما يبدو لم يوفر لها الحماية الكافية. وأخشى أن يكون المجلس القومى للمرأة قد خذلها.
يوما ما ليس بعيدا. عمم الحزب الوطنى على إرجاء مصر شعارا يقول: المصرى اللى (الذى) على حق يقول للغلط لأ. وقد فعلتها السيدة سهير الشرقاوى، وها هى تدفع ثمن نزاهتها. إن الحزب يضحك علينا ويخدعنا حتى فى الشعارات التى يرفعها.
بقلم: فهمي هويدي / جريدة الشروق/ 16 مايو 2010 م.