تحقيق : عبدالرحمن سعد /
'قاتلة زوجها بالإسكندرية, وأبناؤه, استلهموا أحداث الجريمة من فيلم سينمائي.. المتهمة كتمت أنفاس الزوج, وأبناؤه الثلاثة شلوا أطرافه.. بعد أن ضاقوا ذرعا بتصرفاته ونزواته المتعددة, إذ شلوا حركته حتي فارق الحياة, وحاولوا التخلص من جثته بأكثر من طريقة, من بينها الحرق, لكنهم قرروا في النهاية تقطيع جثمانه باستخدام أدوات المطبخ, متأثرين بأحداث أحد الأفلام السينمائية'.
هكذا جاء الخبر الرئيس بصفحة الحوادث بجريدة الأهرام يوم الأربعاء الماضي, وقبله بيوم تناول الخبر الرئيس بالصفحة نفسها تفاصيل مذبحة حلوان التي قام فيها سائق بقتل مطلقته ووالديها وشقيقها وخطيبها وإصابة طفلته, إلي أن دل عليه الناجي الوحيد, وهو ابنه أحمد الذي قال في النيابة إنه شاهد والده, وهو يرتكب الجريمة البشعة, فاعتقد أنه يقوم بتقليد أحد الأفلام الأجنبية, ومن ثم راح يراقبه عن بعد, دون أن يدور بخلده أنه سيفقد أفراد أسرته في لمح البصر, وحقيقة, وليس تقليدا لفيلم, وهكذا رقد علي صدر والدته, وخلع ملابسه, وراح يجفف الدماء من علي جسدها, وهو يناديها.. دون جدوي!
والسؤال الآن: هل تعتبر أفلام الرعب التي غزت البيوت بشكل متصاعد في الآونة الأخيرة, وأصبح لها عشاقها ومدمنوها من جميع الفئات والأعمار, هي المسئولة عن جرائم العنف التي اجتاحت المجتمع المصري, وروعت الرأي العام, في الأسابيع الأخيرة, نظرا لما انطوت عليه من قسوة بالغة, ومشاهد مروعة للقتل والطعن والذبح والتمثيل بالجثث؟ وما مدي وحدود هذه المسئولية؟
لأنك قد لا تستطيع أن تمنع ابنك من مشاهدتها, ولو حرصت.. فلا أقل من توعيته بمضار هذه الأفلام التي يؤكد خبراء الفن والاجتماع والنفس أنها تتسبب في متاعب نفسية لمشاهديها, وتسهم في زيادة ميولهم العدوانية, وتطبعهم إدراكيا مع مشاهدها الدموية, بل وتجعلها شيئا مألوفا لنفوسهم, فضلا عن أنها تقتل فيهم الإحساس بمعاناة الآخرين, وتصيبهم بالتبلد, وتتجاوز ذلك إلي إضعاف مناعة أجسامهم ضد الأمراض, خاصة النفسية والعصبية, وحتي العضوية, بحسب أساتذة المناعة, كما يرفضها علماء الدين, وترتفع المطالبة بتطبيق مواثيق الشرف' الفضائي' إزاءها.
بداية: إذا رأيت إبنك يشاهد فيلما تحت أحد هذه العناوين أو المضامين:' مصاصو دماء..آكلو بشر.. أرواح تتناسخ.. موتي ينهضون للانتقام..أطفال يتحولون إلي حمير.. وحوش ومخلوقات غريبة.. سحر أسود.. جثث تتمزق'.. فاعرف أن المعروض فيلم' رعب'!
حسب دراسة أجريت بكلية الإعلام جامعة القاهرة, علي400 طفل بالمدارس الابتدائية, في كل من القاهرة والجيزة, تبين أن أفلام الرعب( تشمل هنا أفلام العنف والحركة' أكشن') تتصدر المرتبة الأولي في قائمة المواد التليفزيونية التي يقبل علي مشاهدتها الأطفال المصريون!
المخلوقات الخارقة أو الكائنات الخرافية في هذه الأفلام تعد مادة جذب للصغار, وتتمثل المشكلة هنا ـ كما تقول الدراسة ـ في أن هذه الشخصيات غالبا ما تكون الأكثر عنفا بتلك الأفلام.
' الطفل المصري والقنوات الفضائية' كان عنوان دراسة أخري أجرتها الدكتورة مها الكردي الأستاذة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية, حذرت فيها من تزايد معدلات العنف بين الأطفال المصريين نتيجة مشاهدة التلفزيون, مشيرة إلي ميل الاطفال للتحول من مجرد الاعجاب بأبطال العنف في هذه القنوات الي مقلدين أو محاكين لهم ثم منفذين.
ما انعكاس المشاهدة الفعلية لهذه المواد علي الأبناء؟
يجيب عن هذا السؤال المشهد التالي: أحمد عبدالعظيم طفل عمره11 عاما, يدرس بمدرسة( أمريكان كوليج) في الزمالك.. وقع شجار بينه وبين أخيه إسماعيل( ثماني سنوات), فما كان من أحمد إلا أن سارع إلي المطبخ, واستل السكين, وأخذ يهدد بها أخاه!
وما حدث في الشجار, وجد شكلا مختلفا في المزاح إذ أومأ إسماعيل بشوكة الطعام إلي أخيه, والأسرة ملتفة حول المائدة, قائلا له, وهو يلوح بها علي صفحة وجهه:' تحب أحطها لك فين: في بقك, ولا عينك, ولا ودانك'!
في خلفية المشهدين تكمن حقيقة مروعة هي أن الأخوين يدمنان مشاهدة أفلام الرعب, وبرغم الكوابيس الليلية التي تزورهما باستمرار, لايتوقفان أبدا عن مشاهدتها, حتي سرا, عند غياب الوالدين عن المنزل!
ببراءة شديدة يقول أحمد لـ' تحقيات الأهرام':' أحب أشوف الأفلام دي علشان بتعملك إحساس مختلف.. بأبقي خايف بس مبسوط.. بأبقي مطمئن أنه مش هايحصل لي حاجة, وأقنع نفسي بأن ده تمثيل.. في المدرسة بنحكي لبعضنا شفنا إيه.. البنات برضه بتحب تشوف الأفلام دي.. شفت الميت اللي بيتكلم, والجثة اللي اتحركت.. هكذا نتساءل؟'
تقول شيرين والدة الطفلين:' لقد أصبحا عدوانيين جدا بسبب إدمانهما هذه الأفلام.. وأحيانا يأتي أحدهما بإيشارب, ويحاول خنق الآخر, أو يستيقظ فزعا في الليل, من جراء كوابيسها'. برغم ذلك تفضل شيرين عدم منع طفليها من رؤية هذه الأفلام, وتقول إنها تحاول فقط أن تقنعهما بالتخفيف منها.
الخوف' الآمن'
' لا خوف منها, فأنت تشاهدها, وأنت آمن أنه لن يحل بك خطر, بل تستمتع بالشعور به'.. هكذا يقول الناقد السينمائي طارق الشناوي مؤكدا أن أفلام الرعب موجودة في العالم كله, لأنه في تاريخ الجميع روايات وأساطير, كما أن الرعب جانب من جوانب الحياة.
ويضيف: إنها تعتمد علي' الخوف الآمن', وتؤدي إلي تفريغ الطاقة العنيفة.. بل إن البعض يحب مشاهدتها قبل الخلود للنوم لينعم بنوم هانيء.. مشيرا إلي أن المشكلة هي في الالتزام بمعايير الأمان, فلا يشاهدها أحد إلا عند سن معينة.
ومتفقا معه يؤكد علي أبو شادي رئيس هيئة الرقابة علي المصنفات الفنية أن أفلام الرعب ثقافة عالمية, وبعضها ذو قيمة فنية, وهي تقوم علي ما يشبه اللغز الذي يتم حله في النهاية, لكن المشكلة- كما يقول- ليست في الرعب بل في العنف, ونحن نحرص علي عدم التجاوز, والإفراط في مشاهده, بأي فيلم, لدي إجازته.
تعبير' الخوف الآمن', الذي استخدمه طارق الشناوي يستدعي من الدكتورة إيمان شريف الخبيرة في علم النفس الجنائي بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مشاعر الدهشة, محذرة من أن الخوف ينطبع في اللاشعور, ثم يظهر في أوقات, ومناطق معينة, فكيف يكون' آمنا', معتبرة أفلام الرعب سببا في الاضطرابات السلوكية والنفسية, وتنمية الميول العدوانية.
والدليل علي ذلك دراسة أعدتها- هي نفسها- حول العنف داخل الأسرة, وقد سألت أحدهم: من أين أتي بطريقته في ارتكاب جريمته فأجاب: من الأفلام التي أشاهدها.
مشاهد الرعب تنطبع- إذن- في أذهان من يشاهدونها, وتبقي معهم لسنوات, وربما طوال العمر, وأكثر من يتأثرون بها هم الأطفال( أقل من11 سنة), وبالنسبة للمراهقين هناك سرعة استثارة, وتخزين للتأثيرات, وعنف كامن, يظهر لاحقا في المواقف المختلفة.
والمشكلة مشكلة الفراغ, لذا يكفي في رؤية الدكتورة إيمان أن يشاهدا الشاب أحد هذه الأفلام مرة كل أسبوع أو شهر, لا أن تكون تك عادة له, لأنها ستنطبع عليه, وتؤثر في شخصيته, وعلي الأسرة انتقاء المواد المفيدة لأبنائها, وتنويع المشاهدة, وأن تمسك الأم دوما بالريموت, وتشغل فراغ الأبناء بالأنشطة المفيدة, فالبداية للأسرة, والنهاية للإعلام.
' لو تمت مشاهدتها لفترات طويلة ستتحول بالتأكيد إلي إدمان مرضي'.. التأكيد للدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة, واصفا مشاهدة هذه الأفلام بأنه لون من ألوان الخروج من الحياة الروتينية.. وفي دنيا الشباب يصطحب الشاب مخطوبته لمشاهدة فيلم رعب, وكلما خافت, آواها في حضنه, وقال لها أنا معاك يا حبيبتي كأنه يحميها من خطر.. لكنه وهمي!
متفقا مع الرؤية السابقة, وواصفا نفسه بأنه يقف ضد أفلام الرعب علي طول الخط, يحذر الدكتور رفيق الصبان الناقد والأستاذ بمعهد السينما, من تأثيرها الاجتماعي الخطير علي من يشاهدها, متسائلا عن الهدف والمغزي الجمالي الذي تنطوي عليه, بينما هدفها الرعب للرعب, إلا ما جاء منه موظفا في السياق الدرامي؟!
ومنسجما مع رؤية الصبان يقول أحمد الحضري شيخ النقاد السينمائيين:' هي أفلام تنتعش في أوقات الحروب والكوارث, وتغذي الاحتياج للهروب من مواجهة الأزمات, والسؤال: هل لها مردود علي السلوك الإنساني؟
يجيب بسرعة: لها مردود مؤكد, بدليل الجرائم البشعة التي تقع في مجتمعنا من وقت لآخر, ولم نكن نسمع عنها, إذ نتلقاها في البداية كانطباع, دون أن نفكر فيها كمضمون, حيث نتلقاها بأحاسينا لا بعقولنا, ثم تتحول إلي إدمان مرضي, وبفعل التراكم تتحول إلي إيقاع هدام في المجتمع, ومن هنا يقع علي الحكومات دور مهم في تفعيل ميثاق الشرف الذي تم توقيعه بخصوص البث الفضائي, قبل شهور.
من الناحية الصحية, يطل الدكتور عبدالهادي مصباح استشاري المناعة وزميل الأكاديمية الأمريكية للمناعة علي الموضوع مؤكدا أن المرء عندما يشاهد هذه الأفلام يخاف, ومن ثم يفرز جهازه العصبي هرمونات الانفعالات, وهي من الهرمونات الهدامة في الجسم( كالأدرينالين, وغيره), ولها تأثير سلبي علي الجهاز العصبي المركزي, وشتي أجهزة الجسم, وحتي الغدد الصماء.
ما العلاج إذن؟
يجيب استشاري المناعة مبتسما: إنه البحث عن الضحكة, لأنها علاج لكثير من الأمراض, وتقوي الجهاز المناعي, مشيرا إلي أن هناك أكثر من500 شركة غربية بدأت في توفير بدائل مرحة لموظفيها في خلال راحة الظهيرة, بهدف ضبط التوازن النفسي للعامل, وتجديد نشاطه.
أخيرا: من الزاوية الدينية, يؤكد الدكتور عبدالمقصود باشا عضو المجلس الأعلي للشئون الإسلامية حرمة الوقوف فوق القبر, والارتكان إليه, نظرا لحرمة قاطنه, وأن الإسلام نهي عن نقل الجثمان من مكان لآخر إلا لضرورة قصوي, واعتبر الفقه أن نقل الميت من قبر إلي قبر إنما يحدث ألما في جسده, كيوم وفاته.
والأمر هكذا يري الدكتور عبدالمقصود أن استيراد أفلام' الرعب' وعرضها.. أمر يخالف مباديء الإسلام, وينطوي علي مخالفات شرعية, أبرزها: امتهان كرامة الموتي, وتشويه أعضاء الجسد, والترويج لحسم النزاعات بالعنف, وتأجيج فكرة الانتقام.
وما يذهب إليه العالم المسلم, يتفق معه الدكتور صفوت البياضي رئيس الطائفة الإنجيلية مؤكدا أن المسيحية تقوم علي مبدأ احترام الإنسان باعتباره سيد الخليقة, وأن الله خلق المخلوقات لراحته, ومن ثم' فأي أعمال فنية تتناول الأشباح والجن والشعوذة وتحضير أرواح الموتي, وغيرها من الأمور المشابهة, تؤثر سلبا في النفوس, وبالتالي تتنافي مع التعاليم المسيحية, ومن ثم لا تجوز رؤيتها.
تحقيقات الأهرام - السنة 133- العدد -18 مايو 2009 / 23 من جمادى الاولى 1430 هـ - الأثنين
http://www.ahram.org.eg/Archive/2009/5/18/INVE2.HTM