1023699   عدد الزوار
Loading...
me@arsaad.com
 |   |   |   |   |   | 
   
  ***  اغتيـال بحيرة: دماء علـى ميـاه "المـنزلة"..التحقيق الفائز بجائزة التفوق الصحفي ج:1   ***  مغامـرة صحفيــة في أنفاق غزة   ***  الحُلم الإسلامي في "إيمانيات الدولة من وحي الثورة"   ***  حاجتنا إلى آداب سورة "الآداب"   ***  جريمة خلف المحكمة الدستورية‏   ***  عندما تذوب المسئولية
 
مقابلات و حوارات
الحقائق الكاذبة
27/05/2010
 

"الحقائق الكاذبة true lies " : مصطلح في المعجم الغربي يشير إلى حقائق غير مزيفة، ولكنها ليست كاملة، أي أن الحقيقة الكاذبة هي حقيقة جزئية، ومن ثم يمكن توظيفها لتوثيق أي أطروحة مهما كان زيفها، ولتبرير أي سلوك مهما كان ظالماً. ولعل أقرب شيء في تراثنا العربي لهذه العبارة عبارة "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ" الجزئية، كأن هذا هو الأمر الإلهي وليست العبارة الكاملة "لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى".

وعادة ما أضرب المثال التالي على ظاهرة "الحقائق الكاذبة true lies"، إذ تذكر التواريخ الصهيونية أن تيتوس القائد الروماني جاء بجيشه وهزم اليهود وهدم الهيكل وشتتهم. ثم يأتي الصهاينة بإحصائية تقول إن عدد اليهود كان 3 أو 4 مليون في حوض البحر الأبيض المتوسط وبابل (بل وكان عددهم يصل حسب بعض التقديرات التخمينية إلى 7 مليون)، قبل هدم الهيكل، بينما كان عددهم في فلسطين بعد هدم الهيكل لا يتجاوز المليون، ثم أخذ في التناقص، أي أن القائد الروماني تيتوس هو المسئول عن شتات اليهود، وهو الذي أرغمهم على النزوح عن "وطنهم القومي".

وإذا نظرنا إلى الإحصائيات التي أتى بها الصهاينة سنجد أنها حقيقية ولم يتم تزييفها، ولكنه تم ما هو أسوأ من ذلك، إذ تم نزعها من سياقها التاريخي وفرض معنى صهيوني عليها. فنحن إذا نظرنا إلى الإحصائيات الخاصة بأعداد اليهود قبل هدم الهيكل، سنجد أنه كان هناك مليون يهودي في فلسطين بينما كان هناك ما يقرب من ستة ملايين في حوض البحر الأبيض المتوسط وبابل، أي أن اليهود هاجروا من فلسطين لا لأن تيتوس فرض عليهم ذلك، وإنما بسبب مركب من الأسباب، أي أن الشتات (التهجير القسري) لم يكن شتاتاً، وإنما كان انتشاراً، لا يختلف عن انتشار الأقليات والجماعات الإثنية والدينية الأخرى لأسباب عدة من أهمها البحث عن الرزق، ويبدو أن فلسطين عبر تاريخها كانت طاردة لسكانها، بسبب فقر مصادرها الطبيعية.

ومن الأمثلة الدرامية على الحقائق الكاذبة، ما يتعلق بمأساة عائلة تيودور هرتزل. فقد نشرت الصحف الإسرائيلية ووكالات الأنباء اليهودية مؤخرا أخبارا عن نقل رفات ستيفين تيودور نورمان، الحفيد الوحيد لتيودور هرتزل، إلى إسرائيل.

وقد ورد الخبر دون ذكر الكثير من الحقائق، وذلك لتحويل نورمان إلى رمز صهيوني باعتباره يهودياً عائداً إلى أرض الميعاد والدولة اليهودية حتى بعد وفاته! ولكن المعروف أن يهودية هرتزل نفسه أمر مشكوك فيه، فحين حضر حاخام إصلاحي لعقد قرانه اكتشف أنه أمام شخص غير يهودي. ولم يختن هرتزل أولاده كما تتطلب الشريعة اليهودية، كما أنه لم يخفي قط احتقاره لكل من اليهود واليهودية.

 ولعل هذا انعكس على أفراد عائلته. فكبرى بناته بولين (1890 ـ 1930) كانت مختلة عقلياً وطُلِّقت من زوجها وأصبحت صائدة للرجال ومدمنة للمخدرات. أما أخوها هانز (1891ـ 1930) الذي لم يختن طيلة حياته، فقد أصيب بخلل نفسي واكتئاب شديد ثم تَحوَّل إلى المسيحية وانتحر يوم وفاة أخته. أما الابنة الصغرى، فقد ترددت على كثير من المصحات النفسية حتى ماتت عام 1936. وقد نشأ ابنها نورمان ـ وحفيد هرتزل الوحيد ـ في إنجلترا حيث غيَّر اسمه من نيومان (اسم ذو نكهة يهودية) إلى نورمان (اسم ذو نكهة أنجلو ساكسونية)، وكان يعمل ضابطاً في الجيش الإنجليزي . وبعد أن ترك الخدمة عُيِّن مستشاراً اقتصادياً للبعثة البريطانية في واشنطن حيث انتحر عام 1946 بإلقاء نفسه من على كوبري في النهر عقب علمه أن والديه قد لقيا حتفهما في معسكر "تيريسآينشتات Theresieinstadt" في تشيكوسلوفاكيا.

وقد أثارت حالات الانتحار هذه حفيظة المؤسسة الحاخامية التي رفضت في البداية دفن أفراد عائلة هرتزل في القدس (لأن الشريعة اليهودية تُحرِّم الانتحار)، إلا أن الأمر تم تبريره بحجة أنهم كانوا يعانون من الأمراض النفسية مما يسقط عنهم المسئولية الأخلاقية.

ورغم أن الحدث يتم تناوله في الصحافة اليهودية على انه نوع من التكريم والاعتراف بالجميل، مع إضافات درامية تتعلق بيأس الحفيد وانتحاره عقب علمه بموت والديه في أفران الغاز النازية، وهو ما يسهم في ترسيخ الربط الدائم بين المحرقة النازية و حق إسرائيل في الوجود، إلا أن هذه الرواية تتغاضى عن جزء هام من الحقائق وتقوم بحجبه كي تستقيم الحجة وتبدو الحقيقة الكاذبة منطقية.

فما لا يتم ذكره أن معسكر "تيريسآينشتات Thereseinstadt" الذي لقي والدا نورمان حتفهما فيه لم يكن معسكرا للإبادة، وإنما أحد "المعسكرات النموذجية " التي أسسها النازيون على شكل " جيتوات " كانت تأخذ شكل مناطق قومية تتمتع بقدر كبير من الاستقلال، فكان يتم إخلاء رقعة من إحدى المدن من غير اليهود ثم يُنقل إليها عشرات الآلاف من اليهود.

ومن أشهر هذه المناطق جيتو وارسو ولودز وريجا في بولندا ومستوطنة تيريسآينشتات «النموذجية» في بوهيميا. ويُقال إن الهدف النازي من تأسيس هذه المستوطنة النموذجية كان إعلامياً بحيث تقدم للإعلام العالمي باعتبارها مثالاً على "حياة اليهود الجديدة تحت حماية الرايخ الثالث" (وهو اسم أحد الأفلام التي صُورت في المستوطنة).

وقد حول النازيون تيريسآينشتات إلى مستوطنة نموذجية بين عامي 1941 و1945، ورُحِّل إليها حوالي 150.000 يهودي من يهود وسط أوربا وغربها من المتميِّزين أو المسنين أو اليهود من أبناء الزيجات المختلطة. وقد مات حوالي 25 % منهم داخل المعسكر بسبب ظروف الحرب، ورُحِّل حوالي 88.196 إلى معسكرات الاعتقال.

ومن الجدير بالذكر أن زعماء الجماعة اليهودية في تشيكوسلوفاكيا أيدوا خطط بناء معسكرات الاعتقال النموذجية والجيتوات اليهودية باعتبارها تنطلق من تصور استقلال اليهود كشعب عضوي منبوذ له شخصيته القومية المستقلة. ولذا كان للمعسكر النموذجي مؤسساته المستقلة الخاصة به (عملة خاصةـ وسائل نقل خاصةـ خدمة بريديةـ مؤسسات الرفاه الاجتماعي).

وقد تمت إدارة مستوطنة تيريس آينشتات عن طريق مجلس من الكبراء يضم القادة اليهود ويترأسه أحد كبراء اليهود كانت تعينه السلطات الألمانية. وتمتعت المستوطنة بحريات كثيرة، حيث كان لها نظامها التعليمي ونظامها البريدي المستقل ومكتباتها وهويتها الثقافية. ومن ثم، كان من مسئوليات مجلس الكبراء الحفاظ على النظام في المستوطنة وتوزيع العمل فيها وتوطين المستوطنين الجدد والعناية بالصحة وبالمـسنين والأطفـال والإشـراف على النشـاط الثقافي. كما كان يتبع المستوطنة نظام قضائي مستقل (أي أن تيريس آينشتات كانت تتمتع بالحكم الذاتي). وقد سمحت السلطات النازية لسلطات الصليب الأحمر بزيارة المستوطنة وبالاجتماع بمجلس الكبراء.

وتثير هذه المستوطنة قضية هامة هي عدد اليهود الذين تمت إبادتهم عن طريق أفران الغاز. فالموسوعة اليهودية (جودايكا) تتحدث عن أن ربع سكان هذه المستوطنة المثالية التي كانت تتمتع بظروف خاصة ماتوا بسبب ظروف الحرب. كما تذكر أنه في أبريل 1945 وصل إلى تيريس آينشتات 14.000 سجين من معسكرات الاعتقال الأخرى، فاجتاحت الأوبئة سكان المستوطنة وهلك منهم ومن المرحلين الجدد الآلاف، واستمرت الأوبئة في حصدهم حتى بعد سقوط النظام النازي. فإذا كانت الأوبئة قد حصدت حياة الألوف بعد انتهاء الحرب، ألا يثير هذا قضية عدد اليهود الذين أُبيدوا عن طريق أفران الغاز؟ ولكن الأدبيات الصهيونية لا تذكر هذه الحقائق، وتكتفي بترويج الحقائق الكاذبة، أي الحقائق الجزئية.

والله أعلم.

 المقالة للدكتور: عبدالوهاب المسيري يرحمه الله.

نشرت بجريدة الاتحاد الإماراتية بصفحة وجهات نظر بتاريخ 23 فبراير 2008.

http://www.alittihad.ae/authorarchive.php?AuthorID=3

http://www.elmessiri.com/articles_view.php?id=10

 

تعليقات القراء
  الإسم
البريد الالكترونى
  التعليق
 
     ما رأيك فى شكل الموقع ؟
  
هذا الموقع يعبر عن الآراء والأفكار الخاصة بصاحبه ولا ينحاز لأى فئة أو هيئة أو مؤسسة
جميع حقوق النشر محفوظة للكاتب الصحفى عبد الرحمن سعد