أمامنا الآن فرصة نادرة لكسر حصار غزة ومحاسبة قادة إسرائيل على جرائمهم، لكنى لست واثقا من أن دول الاعتدال العربية راغبة فى ذلك حقا!
قافلة الحرية فضحت إسرائيل لا ريب، لكنها فضحت النظام العربى أيضا، نعم نحن نعرف الكثير عن قبح وجه إسرائيل وعربدتها، لكن ما فعلته بحق السفينة مرمرة، حين قتلت بعض ركابها واستولت عليها وهى فى المياه الدولية، عمم تلك الصورة القبيحة على انحاء الكرة الأرضية، مما اطلق مظاهرات السخط والغضب فى العديد من عواصم العالم. ودفع بلدا مثل نيكاراجوا إلى قطع العلاقات مع إسرائيل، كما دفع الإكوادور وجنوب أفريقيا إلى سحب سفيريهما إلى تل أبيب، وكانت تركيا قد سبقتها بطبيعة الحال.
بل اننا فوجئنا بأن عمال الموانئ فى السويد قرروا مقاطعة سفن الشحن الإسرائيلية لمدة أسبوع. بالمقابل فإن الدولتين اللتين عقدتا معاهدة صلح مع إسرائيل (مصر والأردن) قررتا فقط استدعاء السفير الإسرائيلى وتسليمه مذكرة احتجاج تضمنت عتابا دبلوماسيا ليس أكثر. ونحمد الله على أن موريتانيا كانت أسبق وأشجع، لأنها قطعت علاقاتها مع تل أبيب وطردت السفير الإسرائيلى قبل عام، استجابة للضغوط الشعبية التى دعت إلى التخلص من تلك الوصمة.
رد الفعل الخجول والمتواضع لم يكن مقصورا على موقف حكومة مصر والأردن، ولكنه ألقى بظلاله على موقف الجامعة العربية ووزراء الخارجية العرب الذين «اضطروا» إلى الاجتماع فى القاهرة بعدما وقعت الواقعة، وأصدروا بيانا كان دون الموقف الذى اتخذته نيكاراجوا!
صحيح أن الشارع العربى كان أفضل حالا بقليل، حيث تظاهر الناس فيه واستجابوا لنداءات الاسهام والاغاثة بعد الإعلان عن فتح معبر رفح، إلا أننا نعرف جيدا ان صوت الشارع العربى لا يسمع من قبل أهل القرار، وان كلا منهما يمضى فى واد لا علاقة له بالآخر.
بؤس الموقف العربى عبرت عنه الأبواق الرسمية، من ذلك مثلا ان المتحدث باسم الخارجية المصرية حين سئل عن احتمالات التحرك إقليميا أو دوليا فى أعقاب الهجمة الإسرائيلية على القافلة، فإنه فى رده قال ان ذلك منوط بأطراف أخرى. فى اشارة إلى تركيا التى وقع الهجوم على سفينة رفعت علمها، ناسيا أو متناسيا ان «القضية» تهم مصر، أو كانت كذلك.
(2)
إسرائيل فى موقف حرج الآن، فبعد أن تلقت ضربة موجعة فى عام 1979 حين خسرت حليفا مهما مثل إيران. بعد قيام الثورة الإسلامية، فإن الغرور والاستعلاء سببا لها خسارة حليف آخر لا يقل أهمية هو تركيا. وهى خسارة جاءت مغموسة بالدم التركى، الذى عمق من الفجوة والمرارة.
ولا تنس أن دورها الاستراتيجى تراجع بصورة نسبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، وفى الوقت الراهن تتزايد مؤشرات مناهضة سياساتها فى أوساط النخب الأوروبية، التى شاركت بعض عناصرها فى قافلة الحرية وعبرت عن ذلك المظاهرات التى انطلقت فى عواصم القارة.
لا تقل عن ذلك أهمية شهادة الجنرال بترايوس قائد المنطقة الوسطى الأمريكية التى قال فيها ان الجنود الأمريكيين يقتلون بسبب السياسة الإسرائىلية. وشهادة رئيس الموساد مائير داجان أمام الكنيست التى تحدث فيها عن تراجع الدور الاستراتيجى لإسرائيل فى المنظور الأمريكى، بحيث لم تعد الشريك الاستراتيجى لواشنطن، وانما غدت خصما على قدرتها.
والذين قدر لهم ان يطلعوا على عدد جريدة «الشروق» الصادر يوم الأحد الماضى (6/6) أغلب الظن أنهم لاحظوا ان صفحتى الرأى نشرتا أربع مقالات ورسما كاريكاتوريا فى نقد الانقضاض الإسرائيلى على قافلة الحرية. الملاحظة المهمة ان الكتاب الثلاثة أمريكيون والرابع إسرائيلى (عاموز عوز) وعنوان مقال أحد أولئك الكتاب (انتونى كوردسمان الأستاذ بمركز الدراسات الاستراتيجية بواشنطن) كان كالتالى: عندما تصبح إسرائيل عبئا استراتيجيا.
أما الرسم الكاريكاتورى، وهو أمريكى أيضا، فقد صور حلبة ملاكمة وقف فيها شخص مفتول العضلات اشير إلى أنه رمز لإسرائيل، وآخر يمثل اسطول الحرية وقع على الأرض مهشم الوجه، ولكن حكم المباراة رفع يد الأخير وأعلن على الملأ انه الفائز. ورسالة الصورة واضحة فى التعبير عن أن إسرائيل هى الطرف الخاسر فى المعركة التى خاضتها فى مواجهة أسطول الحرية.
نجح ناشطو قافلة الحرية فى ان يجعلوا إسرائيل فى موقف الدفاع وليس موقف الهجوم الذى اعتادت عليه. من ثم لفتوا الانظار إلى جريمة الحصار، الذى فرضته الرباعية الدولية على القطاع، واشتركت فيه بعض الدول العربية، إما بسد المنافذ أو بالصمت على استمراره، وترتب على ذلك استدعاء ملف الحصار على الطاولة، بحيث لم يعد أحد يدافع عن استمراره، وإنما أصبح البعض يتحدثون عن رفعه تماما، فى حين بدا البعض يتداولون أفكارا حول «تخفيفه» فقط. وفرصة البديل الثانى أقوى وأرجح من الأول، لأن إسرائيل وسلطة رام الله ومصر مع استمرار الحصار لحين الخلاص من حكومة حركة حماس فى غزة رغم ان كل طرف له أسبابه فى ذلك.
فى اطار التخفيف هناك بدائل عدة. أحدها يتحدث عن استقدام فريق يمثل الاتحاد الأوروبى لتفتيش سفن الإغاثة القادمة، والتأكد من انها لا تحمل سلاحا. الاقتراح الثانى يتحدث عن فتح ممر بحرى من ميناء أزمير التركى إلى القطاع. وبمقتضاه تتولى السلطات التركية المقبولة من كل الأطراف مراقبة وتفتيش السفن قبل ابحارها.
الاقتراح الثالث ان يعود الأوروبيون إلى معبر رفح لإدارته فى وجود حرس الرئاسة الفلسطينية، كما كان العهد به فى السابق، وهو اقتراح وافقت عليه حكومة حماس، الاقتراح الرابع يتمثل فى إقامة معابر للسلطة فى الجانب المصرى تتولى انهاء الإجراءات، على غرار المعابر الأمريكية فى كندا وايرلندا (الحياة اللندنية 5/6).
سألنى أحد الصحفيين الفلسطينيين من غزة عن رأيى فى فكرة التخفيف. فقلت ان الهدف منها هو التعامل مع القطاع باعتباره حديقة حيوانات، يعيش كل سكانها فى الأقفاص ويقاس مدى نجاح الإدارة فيها بمقدار توفيرها الغذاء ومتطلبات بقائهم أحياء داخل تلك الأقفاص. وأضفت ان الفكرة تحتاج أيضا إلى تحرير وتفصيل، بحيث تعرف حدود ممارسة البشر لحق الانتقال. وبحيث تعرف ماهية «لاعتبارات الإنسانية»، وهل لابد ان يكون الراغب فى المرور على شفا الموت أو فى حالة ميئوس منها.
ومن المخول بتمرير أو مصادرة البضائع التى تمر، وما هو دور إسرائيل فى تحرير المحظور والمباح من تلك البضائع. وقلت لمحدثى ان معبر رفح يسمح الآن بمرور الأشخاص والأدوية، أما الأغذية فلها معبر آخر مثل العوجة تتحكم فيه إسرائيل. وقد حدث فى الأسبوع الماضى ان إحدى سيارات نقل الأدوية حملت كمية من عسل النحل، الذى يتم التداوى به فى بعض الأحيان. وأثناء التفتيش اعتبر عسل النحل غذاء لا دواء. فسمح بإدخال السيارة بعد احتجاز عسل النحل منها!
ان قافلة الحرب والقوافل القادمة من أوروبا التى سبقتها استهدفت أمرين هما كسر الحصار واغاثة المحاصرين، وفكرة «التخفيف» المثارة الآن تحقق طلب إسرائيل وأصدقائها استمرار الحصار، كما انها تمكن إسرائيل وهى فى موقف الدفاع من التحكم فيما يدخل القطاع من سلع، وإذا اردنا ان نذهب إلى أبعد فى الظن فسنقول ان فكرة التحقيق يراد بها وقف حملات التضامن الأوروبية، واقناع الرأى العام الدولى، بأنه ما دام باب وصول البضائع والاحتياجات المعيشية قد فتح، فلا داعى لحملات التضامن الدولية مع المحاصرين.
(4)
الموقف التركى الداعى إلى كسر الحصار يعد المطلب الأجدر بالتأييد والمساندة. واخشى ما اخشاه ان يكون الاعتراض على ذلك المطلب ليس إسرائيليا فحسب، ولكنه قد يكون عربيا أيضا، لأن حكومة السلطة فى رام الله قد تعتبر ذلك انتصارا لحماس وتثبيتا لأقدامها. وهو ما ترفضه يقينا. وهو ما لا تريده مصر أيضا بسبب موقفها التقليدى من حماس والإخوان المسلمين.
لحسن الحظ فإن تركيا مضطرة لأن تتشدد فى موقفها. لأن الغرور الإسرائيلى الذى استهدف الباخرة مرمرة وأدى إلى قتل تسعة من الناشطين الأتراك وإصابة عشرات آخرين، استثار الكبرياء التركى وشحن الرأى العام بدرجة عالية من الغضب، الأمر الذى جعل من الحزم ازاء التصرف الإسرائيلى خيارا وحيدا أمام الحكومة.
صحيح أن ذلك الحزم عبر عن نفسه بعدة إجراءات مثل وقف بعض الانشطة المشتركة العسكرية والمدنية، والحديث عن تقليص العلاقات إلى الحد الأدنى. كما عبر عن ذلك أيضا كل من رئيس الوزراء التركى ووزير الخارجية، بانتقادهما الشديد للسياسة الإسرائىلية، واعتبار ما جرى للسفينة مرمرة من قبيل إرهاب الدولة.
ولا شك ان تمسك أنقرة برفع الحصار عن غزة كأحد شروط المصالحة مع إسرائيل، خصوصا فى ظل الاجواء الدولية المستعدة للتجاوب مع هذه الدعوة، يشكل نقلة مهمة فى نهج التعامل مع ملف القطاع، الا ان نقطة الضعف الوحيدة التى يمكن أن تعطل التقدم على هذا المسار هى الموقف العربى الذى سبقت الإشارة إليه.
وإذا كانت تركيا تحتاج إلى جهد آخرين لكى ترفع الحصار عن غزة فإن دعوتها إلى محاسبة ومحاكمة المسئولين عن الجريمة التى ارتكبت بحق السفينة مرمرة، لا تحتاج بالضرورة إلى ذلك الجهد، ومن ثم فبوسع حكومة أنقرة ان تقوم بها، بما قد يشكل فضيحة أخرى لإسرائيل وتهديدا لقادتها لا يمكن تجاهله، ذلك ان قتل المدنيين الأتراك فى المياه الدولية وهم على سفينة تعد أرضا تركية. يمكن القضاء التركى من محاكمة المسئولين عن تلك الجريمة ومعاقبتهم.
لذلك فإن عملية جمع الأدلة التى يقوم بها الادعاء التركى الآن تعد خطوة مهمة باتجاه إجراء تلك المحاكمة، التى فشل العرب فى اجرائها بعد حرب غزة، رغم الأدلة والقرائن التى سجلها تقرير القاضى جولدستون.
فى هذا السياق فإننى استحى ان أقول ان المركز العربى لتوثيق جرائم الحرب والملاحقة القانونية التابع لاتحاد المحامين العرب، الذى يديره الأستاذ عبدالعظيم المغربى، قام بتوثيق كل الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل فى عدوانها على لبنان عام 2006 وعدوانها على غزة عام 2008، لكنه لم يجد حتى الآن تمويلا يغطى متطلبات رفع تلك القضايا فى الساحة الدولية، خصوصا ان تكلفة القضية الواحدة تصل فى المتوسط إلى 40 ألف دولار.
ان دم الشهداء الأتراك لم يجف بعد، والمشاعر الغاضبة لا تزال تعبر عن نفسها كل يوم فى الشارع التركى. من ثم فالفرصة مواتية لدفع عملية محاكمة مجرمى الحرب الإسرائيليين على ما فعلوه سواء ازاء قافلة الحرية أو فى العدوان على غزة. وليتنا نضم جهود مركز توثيق جرائم الحرب مع الجهود التركية التى تحظى بتأييد شعبى ورسمى كبير لتحقيق الهدف المنشود، واقناع القادة الإسرائيليين بأنهم لن يظلوا فوق القانون دائما، ولكنهم سوف يحاسبون يوما ما.
الحديد ساخن الآن، والفرصة مواتية للطرق، قبل ان ينشغل العالم الخارجى سواء بمعاقبة إيران وحصارها أو بمباريات كأس العالم بكرة القدم، قلت العالم الخارجى لأن العالم العربى مشغول بـ«اعتداله» الذى أخرج نظمه من معادلة القوة ومن التاريخ!
فهمي هويدي / جريدة الشروق المصرية / 8 يونيو 2010