البعض يريدون مسلمين بغير إسلام، يرحبون بالناس وينفرون من المعتقد والقيمة. يعتبرون ان استحضار الإسلام يعقد الأمور ويستدعى مشكلات نحن فى غنى عنها، حجتهم فى ذلك أن إظهار الهوية الإسلامية يثير الحساسية ويمثل عنصرا طاردا للآخرين.
ثم انه يختزل القضايا الكبرى فى رموز دينية ضيقة. ويفتح الباب لحروب دينية استئصالية ضد «اليهود» تقوض امكانية التعايش السلمى معهم. والحل يتمثل فى إخراج الإسلام من الموضوع، وتنقية الصراع من «شوائبه»، وتنحية ما هو دينى لصالح ما هو إنسانى وعلمانى.
هذا الكلام قرأته فى كتابات نشرت مؤخرا، جاءت فى سياق حملة مطاردة حضور الإسلام فى المجال العام، التى يقودها نفر من المثقفين، إذ حذرت تلك الكتابات من فكرة «أسلمة الصراع»، التى قصد بها الانطلاق من المرجعية الدينية فى مواجهة العدو.
ثمة ملاحظتان جوهريتان على هذا الخطاب الأولى أنه ينطلق من رؤية استشرافية نافرة من الإسلام بالأساس. وهى معنية بإقصائه عن الصراع بأكثر من عنايتها بالصمود فى مواجهة العدو أو كسب الصراع. ذلك انهم حين يعتبرون الإسلام مؤديا إلى استبعاد الآخرين وليس متصالحا معهم أو قادرا على استيعابهم، فإنهم يصدرون حكما متأثرا بأجواء التعبئة السياسية والإعلامية الراهنة، التى اختزلت الإسلام فى أداء بعض جماعات التطرف والإرهاب. بمعنى أنه حكم يخص بعض المسلمين ولا شأن للإسلام به.
وهذا القصور فى النظر يضعف الموقف العربى ولا يخدمه، فالغيورون والمخلصون حقا يحرصون على لملمة الصفوف وتوسيع دائرة الاحتشاد فى مواجهة العدو، ولا يلقون بالا لمعايير الخصم والاقصاء، وأبسط مبادئ الاحتشاد تدعو إلى التركيز على وحدة الهدف مع القبول بتنوع المنطلقات الفكرية والسياسية.
بحيث يصطف المشاركون استنادا إلى منطلقاتهم الوطنية جنبا إلى جنب مع أصحاب المنطلقات القومية أو الدينية أو الإنسانية، أما أن تطالب أى جماعة بالتنازل عن منطلقاتها، بعضها أو كلها، فذلك مما ينطبق عليه قول الجاحظ أنه سقم فى العقل وسخف فى الرأى، لا يتأتيان إلا بخذلان من الله سبحانه وتعالى.
الملاحظة الثانية لا تخلو من مفارقة، ذلك أن هذا الكلام يصدر فى حين تتصدر القوى الإسلامية صفوف المجاهدين المناضلين فى ساحة الصراع. وهى التى تدفع الثمن الأكبر فى ساحة المواجهة. ذلك ينسحب على حركتى حماس والجهاد الإسلامى فى فلسطين، وحزب الله فى لبنان، ومقاومة الاحتلال الأمريكى فى العراق.
هم المقاتلون والمحاصرون والشهداء والأسرى. صحيح أن هناك جماعات وطنية شريفة تقف إلى جوارهم فى الساحة، لكن أحدا لا ينكر أن القوى الإسلامية تقف فى الصف الأول كما أنها تتحمل العبء الأكبر وتدفع الثمن الأكبر.
ولا أعرف كيف يمكن لعاقل أن يطل على ساحة الصراع، ليدعو تلك القوى الإسلامية لأن تتنازل عن منطلقها الجهادى بدعوى عدم إثارة حساسيات الآخرين. كما أننى لا أعرف كيف يمكن أن ندعو الشباب إلى الجهاد والموت فى سبيل القضية، إذا لم نقل لهم إنهم حين يقدمون أرواحهم فداء لوطنهم ودفاعا عن قضيته العادلة، فإن ذلك يعد جهادا فى سبيل الله وبابا للفوز بجنته ورضاه.
المدهش فى الأمر أن الذين يأنفون من ذكر المرجعية الدينية فى الصراع، لا يقدمون بديلا ينهض بمسئولية مواجهة العدو، فى حين ينشغلون بتجريد القوى الإسلامية من أمضى أسلحتها وأكثرها فعالية. وبدلا من دعوتهم إلى توثيق العرى مع القوى النضالية والمنظمات الإنسانية الأخرى، فإنهم يسعون إلى تعميق الفجوة بين الطرفين، وإعطاء انطباع بأن خطاب القوى الإسلامية يقوض التصالح والتوافق، ويثير التناقض والتعارض.
إن خطاب مناهضة الاتكاء على الهوية الإسلامية يغيب تماما الحس التاريخى. ويتجاهل خبرة الإسلام فى التعامل مع العالم طوال 14 قرنا، فى حين حاكموه بما تنشره الصحف عن بعض جماعاته وما تروجه تقارير مباحث أمن الدولة. ثم إنه يتسم بخفة نلحظها فى الادعاء بأن خطاب الأسلمة لا يدرك الفرق بين اليهود والصهاينة، وانه حين يتطرق إلى تحرير المقدسات فهو لا يعنى إلا تحرير المساجد والأضرحة والزوايا، إلى غير ذلك من القرائن الدالة على أن الكاتبين خاضا فى أمر يجهلان كنهه، وقدما مرافعة فى قضية لم يدرسا ملفها جيدا، حيث قرآ عنها ولم يقرآ فيها.
فهمي هويدي/ جريدة الشروق/ 10 يونيو 2010م