مصر أمامها شوط طويل لكى تستعيد دورها وحيويتها، حتى أزعم أنها باتت بحاجة لأن تخوض حرب تحرير سياسية شرسة، تتحدى فيها أقدارا رسمها لها آخرون، وبدون ذلك لن يبقى الرأس رأسا. ولن يرجع إلى مكانه فوق الجسم العربى.
(١)
منذ خطفت تركيا الأضواء والأبصار فى الآونة الأخيرة بمواقفها وممارساتها لم تتوقف المقارنة بينها وبين مصر، كأنما حضور الأولى استدعى التساؤل عن غياب الثانية، ومن الصحفيين اللبنانيين من تحدث عن الدور المصرى لتركيا، فى إشارة إلى أن بعض ما تقوم به الأخيرة فى مختلف قضايا الشرق الأوسط، خصوصا فى تحدى العربدة والغطرسة الإسرائيليتين، هو ما كان منتظرا من مصر، ومن بين الأسئلة التى رددها البعض وتناولها الكتاب بالتحليل سؤال عن إمكانية تكرار التجربة التركية فى مصر، خصوصا فى احتوائها لحزب سياسى له جذوره الإسلامية استطاع أن يكسب ثقة الرأى العام وتأييده، ومن ثم نجح فى الوصول إلى السلطة والتعبير عن ضمير المجتمع التركى ولبى شوقه إلى النهوض والتقدم، والحق أن السؤال ليس جديدا، لأنه يتردد منذ حقق حزب العدالة والتنمية فوزه الكبير بأغلبية المجلس التشريعى فى الانتخابات عام 2002، وشكل الحكومة منذ ذلك الحين، وكنت أحد الذين ألقى السؤال عليهم أكثر من مرة واجتهدوا فى الرد عليه، إلا أن ما دعانى للعودة للموضوع أن المناقشة تجددت حوله بعدما أضافت حكومة حزب العدالة التركى نقاطا جديدة إلى سجلها مؤخرا.
وكان من أبرز ما كتب فيه مقالة رصينة للأستاذ ضياء رشوان نشرتها صحيفة «الشروق» يوم 5/7 فى الرد على ذات السؤال، ورغم أنه سلط الضوء على جوانب مهمة فى الموضوع، فإننى وجدت أن الكلام يحتاج إلى تكملة على مستويين.
مستوى الهوامش التى تعمق الفكرة التى طرحها، ومستوى إضافة عنصر مفقود فى تلك الأفكار، ذلك أنه تحدث عما هو مطلوب من الحركات السياسية الإسلامية، والإخوان المسلمين على رأسها، وما هو مطلوب من الأنظمة السياسية والنظام المصرى فى المقدمة منها. ولم يتطرق إلى عنصر بالغ الأهمية فى المشهد يتعلق بحدود وآفاق حركة كل من تركيا ومصر فى الخرائط الاستراتيجية الراهنة، إقليميا ودوليا.
خلاصة الفكرة التى طرحها الكاتب كالتالى: لكى يكون هناك احتمال لتكرار التجربة التركية فى الواقع العربى فلابد أن يشهد ذلك الواقع تغييرا عميقا وجادا فى اتجاه الديمقراطية، كما يتعين على الأحزاب والقوى الإسلامية الراغبة فى الاندماج فى التجربة الديمقراطية القيام بجهود حقيقية وجبارة من أجل التطوير الذاتى واكتساب القدرة الأكبر على هذا الاندماج.
(2)
الهامش الذى وددت إلحاقه بهذا الكلام مؤيدا ومصدقا يتمثل فى شهادة التاريخ التركى المعاصر، التى تثبت أن البيئة الديمقراطية والممارسات التى تخللتها هى التى تكفلت بإنتاج مشروع حزب العدالة والتنمية. ذلك أن ظهور هذا الحزب هو أحد أطوار خبرة استمرت أكثر من ثلاثين عاما، فقد احتملت الديمقراطية التركية تأسيس أول حزب إسلامى بقيادة البروفيسور نجم الدين أربكان عام 1970 باسم حزب النظام الوطنى.
لكنه حظر بعد عام واحد إثر انقلاب الجيش فى عام 1971 وسمحت القوانين التركية لأربكان بأن يؤسس حزبا جديدا باسم السلامة الوطنى (العلمانية التركية تحظر ذكر الهوية الدينية فى تسمية أو نشاط أى حزب)، خاض هذا الحزب انتخابات عام 1973، وأثبت فيها أنه رقم مهم فى الحياة السياسية التركية، الأمر الذى دفع به إلى المقدمة، وجعله شريكا فى السلطة.
حيث أصبح أربكان نائبا لرئيس الوزراء لأول مرة فى الحكومة التى تشكلت فى أعقاب انتخابات عام 73. ثم كانت له مشاركتان أخريان كنائب رئيس الوزراء فى حكومتين أخريين عامى 1975 و1977.
تعرض حزب السلامة الوطنى للحظر بعد حل الأحزاب إثر انقلاب الجيش فى عام 1980. لكنه عاد إلى الحلبة السياسية فى عام 1983 تحت اسم آخر هو حزب «الرفاة». وشارك فى جميع الانتخابات النيابية والبلدية التى جرت بعد ذلك.
إلى أن اكتسح الانتخابات البلدية فى عام 1994. لاسيما فى مدينتى اسطنبول وأنقرة (فى ذلك الوقت انتخب رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء الحالى رئيسا لبلدية اسطنبول).
وكان ذلك مؤشرا على المنحى الذى ستنتهى إليه الانتخابات النيابية، التى أجريت فى آخر عام 1995، وحقق فيها حزب الرفاة انتصارا كبيرا قاده إلى السلطة فى صيف عام 1996. إذ أصبح البروفيسور أربكان رئيسا للوزراء فى حكومة تحالف فيها حزب الرفاة مع حزب الطريق المستقيم (عبدالله جول رئيس الجمهورية الحالى كان وزير دولة للشئون الخارجية فى تلك الحكومة)، وقد استقالت تلك الحكومة بضغط من الجيش عام 97 وتم حل حزب الرفاة، لكن الحزب عاد بعد ذلك للظهور تحت مسمى جديد هو «الفضيلة»، الذى حل بدوره بذريعة مساسه بالعلمانية. فشكل أركانه حزب «السعادة» الذى لا يزال قائما حتى الآن.
خرج حزب العدالة والتنمية من رحم هذه المشاركات، إذ أدرك بعض قادته، عبدالله جول ورجب طيب أردوغان فى المقدمة منهم، وجدوا أنه لا سبيل للاستمرار فى الحلبة إلا بإعادة النظر فى برنامجهم، بحيث يقدم على صياغة جديدة تكون أكثر رحابة ومرونة، ومن ثم أكثر قبولا من جانب المجتمع. فلجأوا إلى تأسيس حزبهم فى سنة 2001، مقتبسين العنوان من حزب بذات الاسم فى المغرب، وخاضوا ببرنامجهم الجديد انتخابات عام 2002 التى حققوا فيها فوزهم المشهود.
(3)
عندما يطالع المرء هذه الصورة بخلفياتها وتداعياتها، فإن السؤال الذى يخطر على باله هو: هل يمكن أن يحدث ذلك حقا فى مصر؟ أعنى أننا إذا افترضنا جدلا أن الإخوان المسلمين أو غيرهم أعدوا برنامجا كامل الأوصاف، يلبى الشروط التى تجعله مرحبا به من المجتمع، هل يمكن أن ينفتح الطريق أمامهم، للسير على ذات الدرب الذى بدأه حزب النظام الوطنى وانتهى بتجربة حزب العدالة والتنمية؟
عندى شك كبير فى ذلك، ليس فقط لأن توافر البيئة الديمقراطية فى مصر لا يزال حلما بعيد المنال، ولكن أيضا لأن وضع تركيا يختلف عن وضع مصر فى الاستراتيجيات العالمية والإقليمية، بحيث إن ما قد يقبل أو يحتمل فى تركيا قد لا يقبل أو يحتمل فى مصر. وهذا منطوق يحتاج إلى بعض الشرح.
إذ من حيث القيمة الاستراتيجية فتركيا دولة، فى حين أن مصر أمة. صحيح أنه من الناحية الجغرافية والتاريخية، هناك ما يسمى بالعالم التركى، الذى يمتد من تركيا الحالية إلى حدود الصين، مرورا بدول آسيا الوسطى، التى تتحدث بلهجات تركية مختلفة. إلا أن مصير تركيا الحالية لم يعد مرتبطا بمصير دول العالم التركى المشار إليه، لكن هذا الوضع اختلف تماما مع مصر التى هى مفتاح العالم العربى، إن سقطت سقط وإذا فتحت فتح.
ولذا كان الاستعمار دائما يركز ضربته الأولى والقصوى على مصر. ثم ما بعدها فسهل أمره. فكان وقوع مصر سنة 1882بداية النهاية لاستقلال العالم العربى، بينما جاء تحرر مصر الثورة (عام 1952) بداية النهاية للاستعمار الغربى فى المنطقة، وفى العالم الثالث جميعا ــ وهذه الفقرة الأخيرة مقتبسة من مؤلف الدكتور جمال حمدان (شخصية مصر ـ ج1)
الموقف مختلف أيضا على صعيد الدور.
فقد كانت الأهمية الاستراتيجية لتركيا طوال سنوات الحرب الباردة أمرا مسلما به. لكن تلك الأهمية تراجعت مع انهيار الاتحاد السوفييتى. وهى الآن بسياستها النشطة وبقوتها الاقتصادية الصاعدة، تبحث عن دور وتحفر لنفسها مكانة لتصبح لاعبا أساسيا فى الشرق الأوسط. أما مصر الأمة فالدور ينتظرها ولا تبحث عنه.
ومنذ استقالت منه بتصالحها مع إسرائيل عام 1979 فإن مكانها لا يزال شاغرا، ولم ينجح أحد فى ملئه، فى هذا الصدد لا تنس أن الشرق الأوسط فى تلك الحسابات مختزل فى أمرين، هما النفط وإسرائيل. من هذه الزاوية فإن التغيير فى الوضع التركى لن يكون ضرره جسيما على المصالح الغربية، أما التغيير فى مصر فإنه يمكن أن يحدث انقلابا فى المنطقة يقلب ميزان تلك المصالح رأسا على عقب.
بسبب من ذلك فإن الولايات المتحدة وإسرائيل مفتوحة الأعين عن آخرها إزاء احتمالات التغيير فى مصر، خصوصا إذا كان ديمقراطيا، قد يأتى بعناصر وطنية مشكوك فى ولائها للغرب.
وهناك أكثر من قرينة تعبر عن هذا القلق، الذى نجده واضحا مثلا فى المحاضرة الشهيرة، التى ألقاها فى عام 2008 وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى السابق آفى ديختر، عن تقدير بلاده للأوضاع فى المنطقة العربية.
وكنت قد أشرت من قبل إلى تلك المحاضرة، التى ألقيت على الدارسين فى معهد أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى، لكن السياق يقتضى استعادة بعض فقراتها للتدليل على الفكرة التى أتحدث عنها.
(4)
فى تلك المحاضرة الوثيقة قال وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى ما يلى:
لأن العلاقات بين إسرائيل ومصر أكثر من طبيعية (هل تذكر قول بن اليعيزر إن القيادة المصرية بمثابة كنز استراتيجى لإسرائيل)، فإن من مصلحة إسرائيل الحفاظ على الوضع الراهن فى مصر ومواجهة أى تطورات مستقبلية لا تحمد عقباها تمس علاقة البلدين.
انسحاب مصر من اتفاقية السلام خط أحمر لا يمكن لأى حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه، وهى ستجد نفسها مرغمة على مواجهة الموقف بكل الوسائل.
إن الولايات المتحدة وإسرائيل تقومان بتدعيم الركائز الأساسية، التى يستند إليها النظام المصرى. ومن بين هذه الركائز نشر نظام للرقابة والإنذار، قادر على تحليل الحيثيات، التى يجرى جمعها وتقييمها، ووضعها تحت تصرف القيادات فى واشنطن وتل أبيب وحتى فى القاهرة.
بعد وفاة الرئيس عبدالناصر وتولى السادات زمام الأمور عمدت الولايات المتحدة إلى إقامة مرتكزات ودعائم أمنية واقتصادية وثقافية مع مصر، على غرار ما فعلته مع تركيا بعد الحرب العالمية الثانية. بهدف لجم أى مفاجآت غير سارة تظهر فى الساحة المصرية. وتمثل تلك المرتكزات فى الإجراءات التالية: إقامة شراكة مع القوى المؤثرة من رجال السياسة والأعمال والإعلام ــ إقامة علاقات وثيقة مع كل الأجهزة الأمنية فى مصر ــ تأهيل محطات استراتيجية داخل المدن الرئيسية، التى تمثل مراكز لصنع القرار، فى القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والسويس وبورسعيد ــ الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز فى القاهرة بإمكانها التحرك خلال ساعات والسيطرة على الموقف لمواجهة أى مفاجآت ــ مرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية فى قواعد داخل مصر وبجوارها، فى الغردقة والسويس ورأس بيناس.
أرجو أن تكون التفاصيل غير دقيقة، لكن الفكرة الأساسية التى أدعيها تظل قائمة، وهى التى تتمثل فى حرص قوى الهيمنة الدولية والإقليمية على أن يبقى الوضع فى مصر على ما هو عليه. لظنها أنه أفضل ما يحمى مصالحها ويؤمنها.
لسنا بصدد قدر مكتوب ولا وضع يستحيل التعامل معه. لأن كل هذه الحسابات يمكن أن تتغير إذا ما توافق الغيورون فى الجماعة المصرية على أولوية خوض معركة تحرير الإرادة الوطنية مما يكبلها ويقيد حركتها ويطلق طاقات التقدم والنهضة فيها. ذلك أننى أزعم بأن كسب تلك المعركة هو واجب الوقت، لأن تحرير الإرادة المصرية هو شرط استعادة مصر لدورها الطليعى، بل إنه شرط لاستعادة الأمة العربية كرامتها ومكانتها، وشرط لتحرير فلسطين أيضا ــ إن مصر هى المشكلة وهى الحل.
فهمي هويدي / صحيفة الشروق / 13 يوليو 2010