هذا موسم الغزل فى الفلاحين والفقراء فى مصر، وما قاله جمال مبارك يوم الأحد الماضى فى هذا الصدد ليس أول كلام فى الموضوع ولا آخر كلام. صحيح أنه قال إن قضايا الفلاح والزراعة احتلت أعلى درجات الاهتمام من جانب الحكومة خلال المؤتمر السنوى الأخير للحزب الوطنى، إلا أن الإشارة المهمة جاءت فى قوله إن ذلك الاهتمام سوف يستمر ويتزايد خلال الفترة المقبلة. وقد استوقتنى تلك الإشارة التى جعلتنى أتساءل عن أجلها والمقصود بها.
خطر لى أن يكون الكلام مما اقتضاه المقام. فمبارك الابن كان يتحدث أمام لجنة الزراعة المتفرعة عن لجنة السياسات التى يتولى أمانتها. ولذلك كان مفهوما أن يقول إن الفلاحين فى عين الحكومة وقلبها، وإنهم عماد اقتصاد البلد.
ولو أنه كان يتحدث أمام لجنة العمل والعمال مثلا لأبرزت الصحف قوله إن العمال هم ملح البلد وعماد اقتصاده، وإن الحكومة والحزب لا شاغل لهما إلا تحسين أحوال العمال ورعاية مصالحهم. وهو أمر لا غرابة فيه. خصوصا إذا كان الكلام بالمجان، ولا يجرؤ أحد على المحاسبة عليه.
ومن ثم فقد كنت على استعداد للاقتناع به، وبالتالى تمرير الكلام وغض الطرف عنه، لولا أن ما حدث فى انتخابات مجلس الشورى الأخير جعلنى أعيد قراءته مرة ثانية والتوقف عند نقطة الاهتمام المتزايد بالفلاحين خلال الفترة القادمة.
إذ فى حدود علمى فإن انتخابات التجديد النصفى لمجلس الشورى التى تمت مؤخرا سبقتها تعليمات سرية بوقف محاسبة الفلاحين على أى مخالفات ارتكبوها وتأجيل المديونيات التى عليهم لصالح بنك التسليف الزراعى.
ولم يكن ذلك جديدا تماما، لأن الفلاحين اعتادوا مع كل انتخابات على أن تسعى الحكومة إلى تهدئة خواطرهم والتسامح معهم، بهدف ملاطفتهم وترطيب جوانحهم، إلى أن تمر العملية فى هدوء، وبعدها تعود «حليمة إلى عادتها القديمة».
ولأن هذه صفقة متعارف عليها، فإن الفلاحين دأبوا على انتهاز أجواء الانتخابات للقيام بالكثير مما هو حرم عليهم على مدار العام، خصوصا عمليات البناء فوق الأراضى الزراعية، التى تؤدى مع كل انتخابات إلى تراجع الرقعة الزراعية بمعدلات تتراوح بين 30 و40 ألف فدان.
كانت هذه الخلفية فى ذهنى حين توقفت عند تأكيد جمال مبارك على أن اهتمام الحكومة والحزب بالفلاحين سوف يستمر ويتزايد خلال الفترة المقبلة، واعتبرت أن المقصود بها هو لحين الفراغ من انتخابات مجلس الشعب التى ستجرى فى نوفمبر القادم، وانتخابات الرئاسة التى يفترض أن تتم فى نوفمبر الذى يليه «عام 2011». لم يقل أمين السياسات شيئا من ذلك بطبيعة الحال. ولكنى فهمتها على هذا النحو استنادا إلى خبرة التجارب السابقة.
وقبلى فهمها الفلاحون الذين لا ينقصهم النباهة، ولم يكونوا بحاجة لأن يقرأوا تصريحات جمال مبارك فى الصحف. فالذين يزورون قرى الدلتا بوجه أخص يلاحظون أن عملية البناء فوق الأراضى الزراعية مستمرة على قدم وساق، تحت بصر وسمع الجهات الحكومية التى أصبحت تقف متفرجة على ما يجرى.
لا أعرف عدد ألوف الأفدنة من الأراضى الزراعية التى سوف تهدر حتى تنتهى الانتخابات الرئاسية. ولكنى أعرف جيدا أن سياسة رشوة الفلاحين واسترضائهم بهذا الثمن الفادح تؤدى إلى تخريب الثروة الزراعية المصرية.
ومن الواضح أن ثمة استعدادا لاحتمال ذلك التخريب، طالما أنه يؤدى إلى تعزيز قبضة الحزب واستمرار سيطرته على مقدرات البلاد. وهو أمر لا يبدو مستغربا، لأن الذى يختطف وطنا ويقزمه ويدمر قدراته واحدة تلو الأخرى، لا يستكثر عليه أن لا يكترث بتدمير الثروة الزراعية أو إهدار ثروته العقارية.
أعرف أيضا أن الاهتمام الحقيقى بالفلاحين أو العمال لا يكون بامتداحهم ودغدغة عواطفهم بالخطب والتصريحات التى تتذكرهم فى المواسم الانتخابية، ولكنه يكون بتحسين أحوالهم والحفاظ على كرامتهم وتوفير الخدمات الأساسية لهم، فى واقعهم المعاش وليس على صفحات الصحف وداخل قاعات الاجتماع المكيفة. ذلك أن الخطب يتبخر أثرها بعد إلقائها، ولا تبقى إلا السياسات التى تنفع الناس على الأرض.
والحالة التى نحن بصددها تعد نموذجا صارخا للتناقض بين الأقوال والأفعال.
جريدة الشروق/فهمي هويدي/14يوليو 2010م