عم محمود كان يعمل معي لمدة ثلاث سنوات، ولم يتأخر يوما عن ميعاده، وهو هادئ الطبع صبور وطيب (الكلام علي لسان أحد المهندسين بشركة المقاولون العرب)، وهو رجل بسيط من قري أسيوط، متزوج من ابنة عمه ولا يعاني من مرض نفسي ولم يسبق أن تناول أي مواد مخدرة ولا يحتاج المال فهو يمتلك منزلا مكونا من ثلاثة طوابق يقيم فيه مع أفراد أسرته... وأولاده متدينون ويتمتعون بخلق حسن يشهد به الجميع.
نحن إذن أمام شخص ليس له تاريخ في العنف أو الإجرام، يعيش في حاله ويتجنب الاختلاط بالجيران حتي لا تحدث مشاكل، وإذا تشاجر أحد أبنائه مع الجيران فإنه يحاسب ابنه ويسحبه إلي داخل البيت تجنبا لأي مشاحنات، وهو يعيش في منطقة عرب غنيم بحلوان ولا توجد فوارق مادية أو اجتماعية كبيرة بينه وبين جيرانه، وحسب ما نشرته الصحف المختلفة لا يوجد في سجله الطبي ما يوحي بإصابته بمرض نفسي، إذن فما الذي حول هذا الشخص المسالم الطيب الهادئ الصبور إلي شخص آخر يقتل بهذه الشراسة وينتقم بهذا العنف؟.. وإذا كانت بينه وبين بعض زملائه خلافات أو مشاحنات حول موضوع التنقيب عن الآثار أو غيرها فلماذا لم يكتف بما هو متوقع في مثل هذه المواقف من الرد اللفظي أو الشجار أو الشكوي، ولماذا لجأ إلي هذه الدرجة القصوي من العنف؟... ثم لماذا وزع انتقامه وعنفه بعد ذلك علي أشخاص في الأتوبيس ليس بينه وبينهم أي خلاف؟.
وكما هو الحال في نكبات الطيران نحاول أن نتفحص الصندوق الأسود لهذا الحادث (ولغيره كلما أمكن) لتفادي تكرار تلك الحوادث المروعة، وللوصول إلي أسرار النفس البشرية في مثل تلك المواقف لنفهم كيف تعمل وكيف تتحول، وماهي القوانين الحاكمة لسلوكها في مثل هذه المواقف الاستثنائية التي يصعب علينا فهمها في إطار قوانين الحياة اليومية العادية. ولابد أن نعترف من البداية أننا نستند في قراءتنا للحدث إلي ما توافر من معلومات في وسائل الإعلام المختلفة، وقد تكون قاصرة بعض الشيء ومتناقضة أحيانا، ولكننا مع ذلك سنحاول الربط بين ماتواتر من معلومات في أكثر من وسيلة إعلامية، ونعمد إلي تحليل الأحداث في ضوء القواعد التي تحكم السلوك البشري في مثل هذه الظروف لنصل إلي استنتاجات تفك شفرة الحدث وتلقي الضوء علي عوامل الخطورة التي تضافرت حتي أنتجت هذا السلوك العدواني وفجرته في نفس مواطن بسيط يبلغ من العمر 54 عاما ومتزوج ولديه أسرة مستقرة ويعمل في وظيفة معقولة (بمقاييس الحياة المصرية المتواضعة ). والخطورة في هذه الحالة تكمن في صدور هذا العنف المفرط عن شخص عادي، وهذا يعني أننا أمام احتمالات صدور عنف مشابه عن أشخاص عاديين آخرين يعيشون بيننا ولا ننتبه إلا إمكانية تحولهم المفاجئ إلي سلوك بهذا العنف، وربما نكون نحن أحد هؤلاء الأشخاص أو نكون ضحاياهم.
«أشارت التحقيقات إلي أن المتهم كان يثور ويغضب طوال ساعات التحقيق.. وحاول أن يضرب رأسه في الحائط أكثر من مرة كلما تحدث عن الألفاظ والكلمات التي كان يستخدمها الضحايا في التهكم عليه، فكانت لديه دوافع الانتقام لكرامته، خاصة بعد أن وصلت السخرية منه إلي ذروتها، فكان الضحايا يقولون له وسط الضحكات :إنهم يريدون أن يفعلوا به............ الأمر الذي أفقد المتهم توازنه وقرر الانتقام منهم، خاصة زميله عبدالفتاح عبدالفتاح، فأمسك بالسلاح الآلي ووضعه علي النظام السريع في إطلاق الرصاص ووقف ينادي بصوت عال : ياعبدالفتاح يابن.... وظل يطلق النيران علي جميع مستقلي الاتوبيس البالغ عددهم 23 موظفا». إذن فمسألة السخرية منه وما تبعها من رغبة في الثأر لكرامته مسألة محورية ومفتاحية في هذه الجريمة، ويبقي السؤال : هل كانت هذه السخرية حقيقية فعلا، أم كانت متوهمة أو مبالغاً فيها ؟.. والإجابة عن هذا السؤال غاية في الأهمية، والحصول عليها أمر بسيط، أما عن الأهمية فهي تشكل الحد الفاصل بين حقيقة موضوعية وحقيقة نفسية، بمعني إن كانت السخرية قد حدثت فعلا فإننا أمام ثأر للكرامة مبالغ فيه تجاه شيء كان يكفي فيه الزجر أو الشكوي أو الرد بسخرية مقابلة أو إعلان الرفض أو حتي ممارسة العدوان اللفظي أو الجسدي في الحدود المتوقعة اجتماعيا، أما إذا ثبت أن تلك السخرية لم تحدث إطلاقا وأنها توهمات Delusions في عقل المتهم استجاب لها بهذا الفعل الوحشي فإن الأمر هنا قد يستدعي عرض الحالة علي لجنة طبية شرعية للتأكد مما لو كانت مسألة السخرية والألفاظ الخادشة للحياء والمهينة للكرامة حقيقة أم ضلالات مرضية. والاستقصاء عن هذا الأمر ليس صعبا إذ يمكن التأكد من ذلك من خلال سؤال زملائه ورؤسائه والمحيطين به، ومعرفة ما إذا كانت لديه مشاعر أو أفكار أو ضلالات اضطهادية تجاه أناس آخرين من عدمه. أعرف أن هذا الأمر قد لا يروق الكثيرين ممن يتمنون القصاص السريع من القاتل، وممن يخشون تمييع القضية في دهاليز الطب الشرعي أو الطب النفسي، وأن ذلك يمكن أن يعطي مبررا طبيا للمذبحة البشعة، وأن ذلك يمكن أن يفتح الباب علي مصراعيه لكل من يقتل ويسفك الدماء تحت غطاءات مختلفة ومبررات واهية... أعرف كل هذا وأحذر منه، ولكن البحث عن الحقيقة يجب أن يتجاوز مخاوفنا من إفلات شخص من العقاب، وقد ورد في كثير من وسائل الإعلام أن المتهم لا يعاني من اكتئاب نفسي، وكأن الاكتئاب النفسي هو المرض الوحيد الذي يدفع الشخص للقتل، في حين أن الاضطرابات الضلالية «Paranoid Disorders » شكل خطرا أكبر في مثل هذه الظروف حيث يعتقد الشخص أن الناس تهزأ به أو تتآمر عليه أو تحاول إيذاءه، وكل هذا يكون غير حقيقي، وفي مثل هذه الحالات يرتكب الشخص جريمته بدم بارد ويشعر بالراحة بعد ارتكابها لأنه يشعر أنه قتل أعداء متآمرين يستحقون القتل. مرة أخري نحن لا نجزم بوجود مرض من عدمه (لأننا ببساطة لم نقم بفحصه طبيا) لدي هذا المتهم ولكن نضع هذا الاحتمال في الاعتبار ونترك لسلطات التحقيق الحق في التصرف وفقا للتفاصيل المتاحة لديها، والتي ربما لاتكون متاحة إعلاميا.
فإذا استبعدنا توهمات السخرية، وكانت فعلا سخرية حقيقية، فكيف يكون تأثيرها في رجل ذي أصل صعيدي يعتز بكرامته ويمثل له الشرف قيمة عليا لا يمكن التنازل عنها خاصة إذا كانت السخرية تطال من رجولته حين تحمل إيحاءات جنسية جارحة؟. بالتأكيد نتوقع أن تكون الاستجابة عنيفة خاصة في شخص عرف عنه الهدوء والطيبة والصبر، فهذه الصفات تجعله يتحمل الإهانة مرة وراء مرة ولكنه يختزنها، فيؤدي ذلك إلي تراكم شحنات من العنف بداخله حتي تصل إلي النقطة الحرجة التي تنهار أمامها محاولته لضبطها فتنفجر تلك الشحنات في كل اتجاه بشكل مدمر ومروع. ومعروف عن المصريين شغفهم بالتنكيت و«التريقة» و«المألسة» و«النقورة»، وأنهم إذا وجدوا في شخص ما نقطة ضعف فإنهم يستغلون ذلك ويصبح هذا الشخص هدفا لمزاحهم و«إفيهاتهم» وترويحهم عن أنفسهم، دون أن ينتبهوا لما يتراكم داخل نفس هذا الشخص من مشاعر سلبية، خاصة إذا كان هذا الشخص ينحدر من بيئة صعيدية تتسم بالجدية والصرامة ولا تعرف اللف والدوران ولا تجيد التلاعب بالكلمات (كما هي عادات البحاروه من أهل الدلتا)، وأهل الصعيد معروف عنهم الصبر والاحتمال وطول البال إلا أنه معروف عنهم أيضا عدم التهاون في مسائل الكرامة والشرف، وأنهم لا يتركون حقهم، وأن فكرة الثأر للشرف والعرض والكرامة هي من أبجديات الحياة في الصعيد.
وبالتوازي مع مشكلة السخرية والاستهزاء كانت هناك خطوط تغذي شحنات الغضب نذكر منها :
1 - «أنه يعمل بالشركة منذ ثلاثين عاما وكان في البداية يعمل سائقا لرؤساء ومديري الشركة لتوصيلهم لمواقع العمل إلا أنه فوجئ منذ عامين بصدور قرار بنقله لمقر الشركة بأبي النمرس للعمل كسائق للموظفين والعمال». وهذه النقلة تعتبر هبوطا وظيفيا فبعد أن كان ينقل الرؤساء والمديرين في سيارات خاصة أصبح ينقل العمال والموظفين في أتوبيس، «وأضافت التحريات أن المتهم أصيب باكتئاب شديد وحاول توسيط كبار الموظفين للعدول عن قرار نقله دون جدوي» في نفس الوقت الذي تم فيه نقل موظفين آخرين إلي أماكن يرغبونها، مما يفتح احتمالات الإحساس بالظلم والمهانة، والذي ربما يكمن في توجهه نحو بقية الموظفين في الأتوبيس برصاصاته وكأنه يقتص من الشركة بكل من فيها، وربما يكون ذلك قصاص رمزي من المجتمع ككل حيث عمم العنف الصادر من أعماقه علي كل من أهانه أو ضغط عليه أو أذاه في حياته.
2 - هناك أنباء عن مشكلات حدثت بينه وبين جيرانه بسبب تورطهم في التنقيب عن الآثار تحت بيوتهم، وقيامه بالإبلاغ عنهم مما جعله يشعر بالتهديد منهم انتقاما لإبلاغه عنهم، وفي هذا التوقيت اشتري السلاح ليحمي نفسه من إيذائهم المحتمل خاصة وقد توافر لديه المال بعد أن حصل علي ثلاثين ألف جنيه دية لابنه الذي توفي في حادث.
3 - ويبدو أنه في وقت من الأوقات قرر أن يفعل مثل جيرانه وأن يحفر تحت بيته بحثا عن الآثار، وكما قيل في وسائل الإعلام فإنه اتفق مع زملاء له في العمل علي أن يشتركوا معه في تكاليف الحفر مقابل نسبة فيما يستخرج من الآثار، ولكنهم - طبقا لبعض الروايات- أخلوا بذلك الاتفاق خاصة بعد فشله في الحصول علي الآثار واعتبر هو ذلك الإخلال غدرا به، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل راح زملاؤه يسخرون منه وانتقلت السخرية وشاعت في الشركة حتي أصبح هدفا لتسليتهم، وقد ورد علي لسانه «عرض علي جاريَّ أبو عبده وأحمد الصعيدي التنقيب عن الآثار أسفل منزلي إلا أنني رفضت في البداية وتوجهت لقسم شرطة 15 مايو وحررت لهما محضرا» وعن خطة تنفيذه للجريمة قال «اشتريت السلاح الآلي المستخدم في الحادث من محافظة أسيوط بمبلغ 8 آلاف جنيه بهدف حماية نفسي من جاريَّ بعد تقديمي بلاغا ضدهما بعد أن انتابني هوس الآثار، واتفقت مع ثلاثة من زملائي بالشركة علي التنقيب بمنزلي ولكنهم لما لم يجدوا شيئا راحوا يسخرون مني وخططت لقتلهم قبل الحادث بأربعة أيام ووضعت السلاح الآلي أسفل كرسي القيادة، ويوم الحادث حينما استفزني زملائي بالسخرية مني فاجأتهم بإطلاق الرصاص العشوائي عليهم ».
وهنا يتجسد إحباطه في الحصول علي الآثار، وإحباطه مما أنفقه علي الحفر، وإحباطه من زملائه الذين تخلوا عنه، وزاد علي كل هذا سخريتهم منه.
وربما لو نظرنا إلي كل حدث من الأحداث التي سبقت الجريمة نري أنه لايبرر هذا العنف الوحشي، ولكن في علم الجريمة والعنف هناك ما يسمي بالتآزر، وهو أن تأثير الأحداث مجتمعة يعتبر أكثر من المجموع الحسابي لها، بمعني أن الأحداث المتتالية والمتزامنة يؤازر بعضها بعضا وتنتج أثرا هائلا أكبر مما نتوقعه حين ننظر إلي الأحداث مضافة إلي بعضها البعض. وإذا أضفنا لذلك طبيعة شخصية الجاني وكونه شخصا طيبا مسالما هادئا وقادما من أصل صعيدي، فإننا نتوقع أنه يصبر ويكظم غيظه، ولا يفتح مجالا للتنفيس التدريجي، بل يختزن غضبه ويشعر بالقهر الشديد، ويختل لديه في لحظة ذلك التوازن بين دوافع الغضب وضوابطه فينفجر عنفا في مشهد مفاجئ للجميع، ولذلك قالوا قديما «اتق شر الحليم إذا غضب».
كان هذا علي مستوي الجريمة المذكورة بعينها، ولكن هناك دروس مستفادة علي المستوي العام ومنها أن ثمة أشخاصاً عاديين جدا في المجتمع المصري يرزحون تحت ضغوط متراكمة ويقتربون يوما بعد يوم من النقطة الحرجة لانفجار العنف، وهذا يفسر زيادة معدلات الجريمة في السنوات الأخيرة في مصر بل وزيادة شحنات العنف المنطلقة في الجرائم حيث هناك إفراط في العنف والانتقام يتجاوز حدود الحدث بكثير. وربما يرجع ذلك إلي كثرة الضغوط النفسية والاجتماعية والمادية بسبب اضطراب منظومة الحياة في مصر، إضافة إلي الفقر والزحام والتلوث وغياب العدل وحالة الانسداد السياسي والصمم السياسي والعناد السياسي. وهناك مايسمي بإزاحة العنف وهو يعني توجيه العنف إلي أشخاص ليسوا هم المقصودين أساسا بالعنف ولكنهم - لسوء حظهم - وُجدوا أمام الجاني لحظة انفجار عنفه، وهذا يضع أي شخص في فوهة مدافع العنف حتي ولو لم يكن سببا مباشرا في تفجيره، فالجاني لحظة انفجار غضبه يصب كل إحباطاته وإهاناته التي عايشها في مراحل مختلفة وظروف متباينة علي من أمامه بصرف النظر عن مسئوليته عن ذلك.
كما أن ثمة حالات مصابة بأمراض نفسية لا ينتبه إليها أحد وتصل في لحظة حرجة إلي انفجار العنف، فيظلمها المجتمع مرتين : مرة بإهمال علاجها ومرة بتوقيع العقوبة عليها دون اعتبار لظروف مرضها.
وأخيرا فإن قواعد تراكم العنف، وتآزر العنف، والنقطة الحرجة للعنف، وإزاحة العنف لا تتوقف عند الأحداث الفردية بل تنطبق أيضا علي سلوك الشعوب، وهو ما يستوجب اليقظة خاصة أن الشعب المصري في السنوات الماضية لديه الكثير من أسباب التراكم والتآزر والإزاحة، وبقيت فقط حالة الوصول إلي النقطة الحرجة التي لو حدثت (لاسمح الله) فإنها تهدد بكوارث لا يعلم مداها إلا الله، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
د. محمد المهدي / جريدة الدستور / 11- يوليو 2010 م