هذا مسلسل يحتاج إلى مؤلف كوميدي لمعالجته، رغم أنه يقع في قلب الصراع السياسي الحاصل في المنطقة.
وقد طرأت لي فكرته حين قرأت ذات صباح في صحيفة الحياة اللندنية أن الرئيس محمود عباس لا يرى أي تقدم في المفاوضات مع إسرائيل، وأن اجتماع رئيس وزراء حكومة رام الله سلام فياض مع وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك لم يحقق أي نتائج.
تذكرت أنني قرأت هذا الكلام عدة مرات من قبل؛ إذ في كل مرة تتحرك فيها المفاوضات أو تعقد الاجتماعات مع القادة الإسرائيليين يقال لنا إنها لم تحقق أي تقدم.. مع ذلك فإنه ما إن تهدأ الأمور بعض الوقت حتى يعود نفس الأشخاص من الطرفين إلى الاجتماع، وتردد التصريحات نفس الكلام.
خطر لي أن تكون التصريحات المتشائمة نوعا من الاستباق الذي يتولى بمقتضاه مسؤولو السلطة نقد ما يجري، بحيث ينقلون ما يجري على ألسنة الناس، ومن ثم يمتصون شعور الرأي العام بالسخط والغضب،
إذ كثيرا ما سمعنا أن مسؤولي السلطة لن يعودوا إلى الاجتماع مع الإسرائيليين إلا إذا تحقق كذا وكذا. ثم تمر فترة يهدأ خلالها الحماس للشروط، وبعد ذلك تعود الاجتماعات إلى سابق عهدها.
ومن باب الالتفاف والاحتيال يقال لنا إن السلطة متمسكة بعدم العودة للاجتماعات، لكنها لن تمانع في عقد مفاوضات غير مباشرة. في الوقت الذي تستمر فيه الاتصالات اليومية، على الأقل عند مستوى التنسيق الأمني. وبعد أن تمر فترة المفاوضات غير المباشرة، تتسرب الأنباء متحدثة عن احتمالات العودة إلى المفاوضات المباشرة.
لقد قرأنا يوما ما أن وقف بناء المستوطنات شرط للعودة للمفاوضات، وبعد فترة تم التراجع عن هذا الشرط وقيل لنا إنه تجميد مؤقت للاستيطان في مناطق دون غيرها بالضفة الغربية، الأمر الذي يعني استمرار التوسع الاستيطاني من الناحية العملية، دون أي توقف أو تجميد. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأنه في خلال تلك الفترة المعلنة انطلقت عمليات هدم بيوت المقدسيين وتواصلت عمليات إبعاد فلسطينيي غزة من الضفة الغربية. ويجرى الآن الإعداد للعودة إلى المفاوضات مرة أخرى!
سمعنا أيضا مرارا عن أن السلطة ستحل نفسها إذا استمر التعنت الإسرائيلى والإصرار على تحدي الطموحات الفلسطينية أيا كان تواضعها، وكان ذلك أيضا من قبيل الاستباق حتى لا يقول قائل:
ما قيمة السلطة إذن إذا ظلت إسرائيل ماضية في مخططاتها دون أن يوقفها أو يردعها أحد؟
ردد مسؤولو السلطة هذه المقولة قبل أن يطلقها أي أحد، ثم ابتلعت الكلام ونسيت الموضوع.
حدث ذلك أيضا مع عملية السلام التي أعلن أمين الجامعة العربية أنها "ماتت"، لكن تبين أنها ما زالت حية والجميع يركضون وراءها، كما حدث مع المبادرة العربية التي أعلن في العام الماضي أنها لن تبقى طويلا على المائدة، وتصورنا أن الخطوة التالية ستكون تحذير «إسرائيل» بأن المبادرة ستسحب في أجل محدد إذا لم تتفاعل معها وتستجب لشروطها. لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وظلت المبادرة فوق المائدة منذ عام 2002، ولا تزال بعض الأنظمة العربية تتمسح بها وتتعلق بأهدابها.
حين يتابع المرء هذه المشاهد المسكونة بالمفارقة والتي يتجلى فيها العجز بصورة فاضحة، فسيجد أن ثمة مشكلة تكمن وراءها، إن لم تكن المصدر الحقيقي لها، تتمثل في انعدام الخيارات الأخرى أمام المفاوض الفلسطيني والعربي، الأمر الذي يجعله مضطرا لإدارة خده الأيسر كلما تلقى صفعة على خده الأيمن،
ذلك أن معادلة ميزان القوى بين الأطراف المتقابلة في عملية التفاوض تتأثر -إيجابا وسلبا- بمدى توافر هذه الخيارات من عدمه. فقوة الطرف المفاوض تزداد بمقدار ما يتوافر له من خيارات أخرى يمكن اللجوء إليها عدا عن التفاوض.
أما إذا انحصرت الخيارات في مسار التفاوض فقط، وأصبح المسار الوحيد المتاح، فإن الطرف المفاوض يخسر قضيته ويصبح عاجزا حتى عن مجرد الممانعة، لأن الطرف المقابل سيلجأ حينئذ إلى ابتزازه والحصول منه على أكبر قدر من التنازلات الجوهرية،
وهذه الفقرة الأخيرة ليست من عندي، ولكني أقتبسها من ورقة حول المأزق الفلسطيني، قدمها الدكتور علي الجرباوي قبل سنتين إلى مؤتمر عقد حول مستقبل القضية الفلسطينية، بدعوة من مركز الخليج للدراسات بالشارقة. وكان الدكتور الجرباوي وقتذاك أستاذا للعلوم السياسية بجامعة بيرزيت، قبل أن يصبح وزيرا في حكومة رام الله الحالية.
فهمي هويدي / صحيفة السبيل الأردنيه /21 يوليو 2010