ليست خطيئة حقًا.. إنها جريمة ليست الحكومة وحدها التى تستغفلنا. لكن بعض المثقفين يقترفون الإثم ذاته. وجرم الآخرين أفدح، لأننا إذا كنا قد اعتدنا الاستغفال الرسمى فإن تطوع أولئك النفر من المثقفين للقيام بهذه المهمة يصدمنا، لأنهم بذلك يتخلون عن دورهم فى التعبير عن ضمير الأمة، ويختارون أن يقوموا بدور «البوق» للسلطة.
لقد صدمنى مرتين مقال لأحد أولئك المثقفين نشر يوم الثلاثاء الماضى (3/8) كان تعليقا على موافقة وزراء الخارجية العرب الأعضاء فى لجنة المبادرة، على إجراء المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية استجابة لطلب نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى، وامتثالا لأمر الرئيس أوباما. الصدمة الأولى أن المقال فى تأييده لتلك الخطوة استشهد بتجربة المفاوضات المباشرة بين الفيتناميين والأمريكيين فى ستينيات القرن الماضى، رغم أنه لا وجه للمقارنة بين الحالتين الفلسطينية والفيتنامية.
أما الصدمة الثانية فتمثلت فى أن المقال محسوب على اليسار، الذى ارتبطت صورته فى الأذهان بالنضال ضد الاستعمار، والانحياز إلى جانب حركات التحرر الوطنى. ولكننا فوجئنا بأن بعض رموزه خلال السنوات الأخيرة سئموا النضال وأهله، وفتحوا دكاكين مختلفة عرضوا فيها عباءة اليسار للبيع لحساب جهات عدة، لم يكن النضال أو التحرر الوطنى من بينها.
وهى مفارقة لا تخلو من دلالة، ذلك أن بعض اليساريين حين أرادوا أن يسوقوا موقف السلطة ودول الاعتدال فى تعاملهم مع الإسرائيليين، فإنهم استدعوا التجربة الفيتنامية وتلاعبوا بها. وهم فى ذلك لم يختلفوا عن نظائرهم من أهل اليمين وفقهاء السلطان، حين استدعوا صلح الحديبية ليبرروا الصلح مع إسرائيل ويسوغوه للناس. إن شئت فقل إن الطرفين أديا دور فقهاء السلطان مع اختلاف مرجعيتهما. فيتنام هى المرجعية عند الأولين وصلح الحديبية مرجعية الأخيرين. وهدف الطرفين هو خدمة السلطان وتبرير أفعاله، لتحقيق مآرب خاصة لا تخفى على أحد.
المقالة التى أشرت إليها لصاحب الخلفية اليسارية ركزت على نقطتين هما: انتقاد رفض حركة حماس التوقيع على وثيقة المصالحة المصرية، واعتبار ذلك الموقف ضارا بمصلحة الشعب الفلسطينى. ثم حفاوته بفكرة المفاوضات المباشرة مع الإسرائيليين، وادعاؤه أنها «ليست خطيئة لا يجوز الإقدام عليها، بل هى ضرورة لتوفير فرصة إقامة السلام» وهذا الشق الأخير هو الذى تم الاستشهاد فيه بمفاوضات الفيتناميين مع الأمريكيين.
فى النقطتين كان الاستغفال حاضرا بقوة. ذلك أن الكاتب المحترم تحدث عن وثيقة لم يقرأها، وإذا كان قد قرأها فأشك كثيرا فى أنه استوعب مضمونها، لأننى أرجو ألا يكون قد استوعبها وأيد ما فيها. وعلى سبيل التذكرة فقط فإن الوثيقة المذكورة تحرم المقاومة، وحصرتها فى جهاز الأمن الرسمى (التابع للسلطة) الذى رعاه وأشرف على إعداده الجنرال الأمريكى دايتون، وهذا الجهاز هو أيضا الذى يمارس التنسيق الأمنى اليومى مع الإسرائيليين. وهذا بند وحيد يكفى فى رفض التوقيع على الوثيقة، باعتبار أن التوقيع فى هذه الحالة هو الذى يضر بمصلحة الشعب الفلسطينى.
المقارنة المثيرة للدهشة حقا هى تلك التى أجراها صاحبنا بين التجربتين الفلسطينية والفيتنامية. ذلك أن الاستغفال فيها كان من العيار الثقيل. آية ذلك أن الفيتناميين كانوا يحاورون الأمريكيين فى باريس، بينما قتالهم مستمر مع قواتهم فى فيتنام. بل إنهم كانوا إذا فقدوا موقعا على جبهة القتال فإنهم كانوا يطلبون من ممثليهم فى باريس أن يبقوا فى فنادقهم لا يغادرونها، حتى يستعيدوا ذلك الموقع ويعززوا موقفهم التفاوضى.
ولا وجه للقياس على الحالة الفلسطينية هنا. ليس فقط لأن المفاوض الفلسطينى يدين المقاومة ويلاحق عناصرها، وإنما أيضا لأن رئيس السلطة ذاتها وصف المقاومة ذات مرة بأنها عمل «حقير». من ثم فالفرق بين الحالتين هو ذاته الفرق بين مفاوضات تعادلت فيها موازين القوة على الجبهة وأخرى اختلت فيها تلك الموازين، بحيث صارت المفاوضات نوعا من الإملاء والإذعان.
إننى أوافق الكاتب فقط فى قوله إن المفاوضات المباشرة ليست خطيئة، لأنها أكبر وأفدح من ذلك حقا. إذ أزعم أنها فى ظل الموازين الراهنة جريمة بحق الشعب الفلسطينى. والضالعون فيها ليسوا المفاوضين فحسب، ولكنهم المسوغون والمبررون والمشجعون أيضا.
فهمي هويدي / جريدة الشروق / 5 أغسطس 2010م