فى أول مارس سنة 2008 أصدرت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة حكما يلزم الكنيسة الأرثوذكسية والبابا شنودة باستخراج تصريح زواج لشخص مسيحى مطلق. وكانت محكمة القاهرة الابتدائية الكلية للأحوال الشخصية قد حكمت من قبل بتطليقه من زوجته «طبقا لأحكام المادة 7 من لائحة الأقباط الأرثوذكس التى كان اعتمدها وأصدرها المجلس الملى بتاريخ 5 سبتمبر سنة 1938 ونصت على «أن من أسباب التطليق إساءة أحد الزوجين معاشرة الآخر مما يؤدى إلى استحكام النفور بينهما واستمرار الفرقة لمدة ثلاث سنوات متتالية»، فلما طلب الزوج المطلق تصريحا من الكنيسة بزواج ثان له رفضت الكنيسة بالقول إن سبب التطليق الأوحد فى الإنجيل هو الزنا الذى لم يتحقق فى هذه الحالة، أقام الرجل دعواه أمام محكمة القضاء الإدارى طالبا إلغاء قرار الكنيسة برفض تزويجه فقضت له المحكمة باجابة طلبه ملزمة الكنيسة بالتزويج وذلك فى سنة 2006، فطعن البابا شنودة فى هذا الحكم محتكما إلى المحكمة الإدارية العليا، فرفضت طعنه مؤيدة حكم القضاء الإدارى المذكور سابقا. (صحيفة المصرى اليوم 2 مارس سنة 2008 ص5).
وأحكام مجلس الدولة بجميع مستويات محاكمه مستقرة منذ إنشائها فى أربعينيات القرن العشرين على عدد من الأمور؛ أولها: أن الكنيسة الأرثوذكسية وغيرها من الكنائس فى مصر هى هيئات عامة إدارية يخضع نشاطها للقضاء الوطنى، وثانيها أن قرارات هذه الهيئات فيما يمس المراكز القانونية للأفراد هى قرارات إدارية يختص مجلس الدولة بنظر النزاعات الخاصة بها والطعون التى ترفع ضدها، وأن أمور الزواج والطلاق بالنسبة لتصريح الكنيسة بها أو رفضها هى من صميم ما يمس المراكز القانونية للأفراد المتعاملين معها، ولو أن سوابق أحكام مجلس الدولة وفتاواه على مدى العقود السابقة أدخلت فى جهاز حاسب إلكترونى بالنسبة لما يمس هذا الموضوع، ثم أدخلت عليه هذه الحالة الأخيرة لصدر الحكم المذكور بنصه وأسبابه.
وقد ذكرت المحكمة فى حكمها المشار إليه أنه لا يجوز أن يباشر الرئيس الدينى اختصاصه بمنأى عن رقابة القضاء، وأن البطريرك برفضه التصريح بالتزويج لرافع الدعوى «قد جاوز سلطاته المفوضة له بموجب قواعد شريعة الأرثوذكس» بمعنى أنها طبقت عليه شريعة الأرثودكس المحلية المتمثلة فى لائحة صادرة من مجلسهم الملى والتى سرت منذ سنة 1938. والمجلس الملى وإن كان بالانتخاب فإن رئيسه البطريرك على مدى عمره كله، وقد صدرت اللائحة فى عهد البطريرك يؤانس التاسع عشر، واستمرت باقية معمولا بها بنصها على مدى عمره حتى 1942 وتبعه بعدها البطريرك مكاريوس الثالث حتى سنة 1945، ثم تبعه البابا يوساب الثانى حتى سنة 1956، ثم البابا كيرلس السادس حتى سنة 1971، حيث تولى البابا شنودة الثالث البطريرك الحالى، وهذا البطريرك كان له رأى جهير ضد بعض أحكام اللائحة لأنه يرى أن الإنجيل يحصر سبب الطلاق فى الزنا فقط، إلا أنه لم يعدل هذه اللائحة ولم يصدر من المجلس الملى الذى يرأسه تعديل بهذه الأحكام على ذات اللائحة إلا فى 2 يونيو سنة 2008، إذ صدر قرار المجلس الملى برئاسته ونشر بالوقائع المصرية بالعدد رقم 26 فى 2 يونيو 2008، معدلا بعض مواد اللائحة وحصر سبب الطلاق حالة الزنى وما فى حكمها الذى حدده القرار، ونصت المادة الرابعة من التعديل المنشور «تنشر هذه التعديلات بالوقائع المصرية ويعمل بها بعد شهر من اليوم التالى لتاريخ نشرها» ووقع القرار بالتعديل «رئيس المجلس الملى العام قداسة البابا شنودة الثالث».
ومعنى ذلك أنه من الناحية القانونية والقضائية، ومما أقر به الأنبا شنودة ذاته ووقع به على تعديل اللائحة، أن اللائحة بنصها القديم قبل التعديل تبقى سارية بأحكامها كلها حتى تاريخ العمل بالتعديل الذى أدخل عليها والمعمول به من 2 يوليو سنة 2008، وبهذا يكون قضاء المحاكم بأحكام اللائحة قبل التعديل على الوقائع والحالات السابقة على 2 يونيو 2008 يحمل وجهة نظر لا خلاف بشأنها، مما أقر به الأنبا شنودة ذاته ونص عليه فى المادة الرابعة من التعديل.
ومع ذلك اعترضت الكنيسة على هذا الحكم، على الرغم من أنها هى من قدم الدعوى فى الطعن إلى المحكمة العليا، أى أنها قبلت سلفًا الاحتكام إليها، فلما صدر الحكم على غير ما تريد امتنعت عن تنفيذه، وصرح أسقف شبرا الخيمة الأنبا مرقس بـ«أن الكنيسة لا تخضع إلا للكتاب المقدس الذى حدد أسباب الطلاق، وشدد على أن الكنيسة لن تخالف القانون الإلهى من أجل قانون إنسانى» وتابع «لا يوجد إنسان يستطيع إملاء قوانينه على الكنيسة»، «لا أحد يفرض قوانينه علينا» (المصرى اليوم ــ العدد السابق ص1)، ثم أكد هذا المعنى ذاته الأنبا شنودة فى عظته يوم الأربعاء 5 مارس 2008، «شن هجوما ضاريا على حكم المحكمة الإدارية العليا بمنح تصريح الزواج للمطلقين مرة أخرى، مشيرا إلى أن الحكم غير صائب وغير ملزم لنا، فلا نعترف سوى بتعاليم الإنجيل، ولن نخالف ضمائرنا وأحكام الكتاب المقدس فما يقوله الرب يطاع وليس ما يقوله الناس»، (صحيفة الدستور 7/3/2008 ص3).
وفى وقت لاحق طالب البطريرك بإصدار قانون الأحوال الشخصية الموحد لغير المسلمين وهدد قائلا: «أو يظل الصراع بين الدولة والكنيسة قائما» (الدستور 23/5/2008 ص3)، ثم فى 2/4/2008 أعاد ذات المعنى فى حديث مع الأستاذة سناء السعيد فى صحيفة الأسبوع وذكر أنه لا يستطيع أن يقول إن حكم المحكمة غير مضبوط، ولكن الكنيسة تملك أن تقول: «لا أستطيع أن أزوج هؤلاء مرة ثانية لأننى لست قادرة على اعتماد الطلاق حسب قواعد الدين».
وإن قوله هذا ينطوى على معنى عكسى لما يتعين أن يكون عليه الحال، فإننا نستطيع أن نقول إن حكم المحكمة قد جانبه الصواب من وجهة نظر القائل لأنه فى النهاية من أفعال البشر، ولكننا نلتزم بما حكمت به المحكمة فى هذه الحالة ما دام حكما نهائيا غير قابل لطعن قضائى من جهة قضاء أعلى. أما أن يكون للكنيسة ألا تنفذ حكما نهائيا، فهذا خروج على الدولة قضاء وقانونا بما تمثله الدولة من تعبير عن الجماعة الوطنية، وهو خروج على الشرعية السائدة فى المجتمع، بمعنى أن القول السابق من شأنه أن يخرج الكنيسة بإرادتها من الخضوع للدولة الممثلة للجماعة الوطنية.
وقد تكرر هذا الواقع السابق فى سنة 2010، إذ أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمين فى أوائل شهر يونيو 2010 بإلزام الكنيسة بإصدار قرار زواج ثان للحاصلين على أحكام التطليق، فأذاعت القناة الفضائية للكنيسة قولا للأنبا شنودة: «لا أحد يلزمنا بغير تعاليم الإنجيل» وأصدرت إبراشية الجيزة للأقباط الأرثوذكس بيانا وقعه الأنبا دوما دويوس مطران الجيزة تيوتيدوسيوس أسقف عام الجيزة، وذكر البيان «نعلن رفضنا لأى قوانين وقرارات وأحكام تلزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بمخالفة شرائع وتعاليم الكتاب المقدس» وأعلن القمص متياس نصر منقريوس رئيس تحرير مجلة الكتيبة الطيبية عن تنظيم مظاهرة لتأييد البطريرك فى موقفه من حكمى المحكمة الإدارية العليا، وذكر فى بيان إذاعة «ندعو كل الأقباط للتظاهر عقب عظة البابا الأسبوعية بالكاتدرائية الأربعاء المقبل» (صحيفة الشروق 7/6/2010 ص1) وهدد العديد من القساوسة بالدخول فى اعتصام مفتوح مع رعاياهم فى حالة التفكير فى المساس بالبابا شنودة وأعلنوا أن الغد الأربعاء سيكون «يوم الغضب القبطى».
وأعلن منير مايكل رئيس منظمة أقباط الولايات المتحدة لبعض مطارنة الكنيسة بمصر أن أقباط المهجر يقفون بجانب البابا شنودة (المصرى اليوم 8/6/2010 ص1) وأصدر المجلس الملى العام بيانا مدفوع الأجر نشرته صحيفة الأهرام فى 8/6/2010 بأن أعضاءه يؤيدون الأنبا شنودة الثالث فى تصريحاته بوجوب الالتزام بنصوص الكتاب المقدس، واستبعاد أن يجرؤ أحد على تغييرها، وتمنى ألا توجد «أى خلافات بين الكنيسة والدولة»، ولاشك أن يقصد بالدولة هنا جميع مؤسساتها ومنها الهيئة القضائية فيما تصدره من أحكام، والدولة فى هذا المفهوم الذى استخدمه البيان هى بكل مؤسساتها توضع أمام الكنيسة صنوا لها وندا، والكنيسة بذلك ليست هيئة من الهيئات الخاضعة لمؤسسات الدولة. ثم أصدر المجلس الملى العام بيانا ثانيا وقعه كل أعضائه يؤيد الموقف السابق ونشر مدفوع الأجر فى صحيفة الأهرام فى 9/6/2010.
أصدر المجمع المقدس برئاسة الأنبا شنودة الثالث بيانا أعلنه فى مؤتمر صحفى ظهر يوم 8/6/2010، «أن الكنيسة القبطية تحترم القانون ولكنها لا تقبل أحكاما ضد الإنجيل وضد حريتنا الدينية التى كفلها الدستور، كما نعلن أن الزواج عندنا هو سر مقدس وعمل دينى.. والشريعة الإسلامية تقول احكموا حسبما يدينون...» وأن المحكمة «لا تستطيع أن تصدر حكما ضد الشريعة الإسلامية» (الشروق 9/6/2010 ص1)، وكان من وقعوا على بيان المجمع واحدا وثمانين من الأساقفة، وذكر البطريرك أن قرارهم «يعبر عن رفضنا الكامل للحكم حتى لا يكون الأقباط تعبانين ومضغوطا عليهم فى دينهم (المصرى اليوم 9/6/2010 ص1 و6) واجتمع نحو ألف قبطى فى ساحة الكاتدرائية وفى حضور البطريرك، وألقى البطريرك عظة حضرها نحو خمسة آلاف قبطى ونحو سبعمائة كاهن من جميع الإبراشيات واعتدى بعضهم ــ المتظاهرون ــ على نبيل لوقا بباوى عضو مجلس الشورى بالضرب وهشموا سيارته متهمينه بالعمالة والخيانة والعمل لصالح الدولة ضد الكنيسة» (صحيفة المصرى اليوم 10/6/2010) وأعدت نحو خمسين لافتة بالحجم الكبير يعلن بها شعب الكنيسة «تأييده التام للبابا شنودة ضد أى أحكام قضائية مخالفة للإنجيل»، كما أطلقت مواقع الإنترنت حملة توقيعات «ضد حكم القضاء» (الشروق 10/6/2010).
وثمة مسألة يتعين تجليتها هنا، فإن القائلين بتطبيق الشريعة الإسلامية من المسلمين بمصر، ويطلبونها ويدعون إليها، إنما يطلبون أن تكون الشريعة الإسلامية مصدرا للقوانين التى تصدرها الدولة بمعنى أنهم يخضعون للقوانين الوضعية القائمة ويخضعون للقضاء المصرى الذى يصدر أحكامه لهم أو عليهم طبقا لهذه القوانين الوضعية، فهم يطالبون بتغييرها دون عصيان ورفض لانطباقها عليهم، والأزهر نفسه تصدر أحكام القضاء ضده بإلزامه مثلا بأداء مبالغ معينة مستحقة عليه لأفراد أو شركات أو مقاولين، ويحكم عليه بأن يؤدى الفائدة المقررة على هذه المبالغ طبقا للقانون الوضعى المخالف للشريعة الإسلامية ولنص القرآن الكريم فى هذا الشأن، وهو ينفذ هذه الأحكام لأن كل المطلوب ليس إنكار الخضوع لقوانين الدولة ولقضائها ولكن أن تعدل القوانين وفق مرجعية فكرية معنية، وهذا الموقف يختلف تماما عما ظهر من العرض السابق بالنسبة لموقف الكنيسة وهيئاتها.
وقد حاول الأنبا بسنتى أسقف حلوان أن يوضح للرأى العام معقولية ما تراه الكنيسة من حكم يتعلق بقصر سبب التطليق على علة الزنى فقط ودوام علاقة الزواج وإن استحكمت النفرة بين الزوجين، فذكر أن آدم واحد وأن حواء واحدة لم تتعدد «والزواج مثل البطيخة إما حمراء أو قرعة، فإذا وجد الزوجان بعد الزواج أنفسهما غير متفاهمين أو متوافقين فعليهما أن يتحملا ولا يشكوا من أنهما لم يوفقا فى الاختيار، وعلى الطرف المتضرر أن يحمل صليبه ويتحمل تماما كمن أصابه مرض الطاعون أو السرطان فلا يلجأ للانتحار، بل يتحمل ويعتبر الأمر امتحانا من الله لقوة إيمانه، لذلك أطلقنا عليه فى المفهوم الكنسى «صليب الزواج مثل صليب الفقر والمرض» (صحيفة صوت الأمة 12/6/2010 ص11) وهذا ما وجده غبطته معبرا عن معقولية الرأى الذى يتبناه فى فهمه لحكم التطليق على خلاف ما كان واردا بلائحة 1938.
كما ذكر الأنبا بولا أسقف طنطا أن حكم مجلس الدولة «توثيق لاضطهاد أقباط مصر، هو لا يمثل اضطهاد فرد لفرد، لكنه اضطهاد تمارسه الدولة كلها ضد الكنيسة»، وأنه يدخل فى «الأحكام الكارثية.. سيؤدى إلى صدام بين الدولة والكنيسة» وأن أقباط الخارج مهتاجون «ولهم اتصالات بصانعى القرار بالخارج» (صحيفة الفجر 14/6/2010 ص7) ولخصت هذه الصحيفة الموقف بقولها إن جماعات الفيس بوك أعلنت أنها «ستقلب البلد عاليها واطيها لو صدر قرار بحبس أو عزل قداسة البابا شنودة»، يشيرون بذلك إلى أن المادة 123 من قانون العقوبات المصرى تنص على عقوبة العزل والحبس لأى شخص عام يمتنع عن تنفيذ أحكام القضاء، كما ذكرت أن أقباط المهجر يؤكدون للبطريرك دعمه وأنهم يمكنهم أن يمولوا أى حركة لجبهة المليون وشباب حركة شباب مصر، وكل ذلك أدى بالصحيفة لقولها: «بدا أن الكنيسة تواجه حربا أو أنها هى التى تسعى إلى حرب تثبت خلالها أنها موجودة وأن أحدا لا يمكن أن يجبرها على شىء (الفجر 14/6/2010 ص7).
إن المسألة التى كانت مثارة متعلقة بزواج المطلق ليست بذات شأن فى حجمها، إنما الشأن كله فى أنها استغلت من جانب الكنيسة وهيئاتها ورجالها لإعلان الخروج على الشرعية التى تقوم عليها أجهزة الدولة المصرية وقد أعلنت جهارا بكل هيئاتها أنها لا تلتزم بأحكام القضاء ولا بأحكام لائحة المجلس الملى لسنة 1938، ولا حتى بتعديل الأنبا شنودة لها الذى أقر فيه بأنه لا تسرى أحكام التعديل إلا اعتبارا من 2 يوليو 2008، ولا بالقوانين المصرية من باب أولى، إلا إذا كانت توافق ما تراه الكنيسة ـــ حسب قول البطريرك فى كل حين. فالمسألة تثير بشكل مباشر علاقة الكنيسة بالدولة كما ذكر الأنبا بولا فى حديثه السابق، والدولة كما نعرف هى المعبر عن الجماعة الوطنية المصرية، والحاصل أن هذه العبارات التى عبر بها رجال الكنيسة وهيئاتها عن موقفهم الفكرى والسياسى أحسبها أشد غلوا مما يستعمله غلاة المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية حسبما سبق البيان.
إن المسألة التى ينبغى تناولها فى هذا المقام هى مسألة مدى خضوع الكنيسة المصرية بوصفها إحدى هيئات المجتمع المصرى لسلطة الدولة المصرية المعبرة عن الجماعة الوطنية المصرية بجمعها كله، ولكى نتصور الموضوع الذى نتكلم عنه، فإن الأصل أن جميع المصريين بوصفهم أفرادا وهيئات خاصة هم خاضعون لسلطات الدولة وهيئاتها العامة، وهم يتعاملون معها حسب تنوع هذه الهيئات العامة وتوزيع اختصاصاتها، والأصل أيضا أن الدولة ليست كيانا واحدا، إنما هى تتكون من سلطات ثلاث، تنفيذية وتشريعية وقضائية، وكل من هذه السلطات الثلاث يتولى مهام محددة ويخضع لرقابة السلطتين الأخريين فى مجالات حددها القانون ورسمها، وكل من هذه السلطات الثلاث أيضا تتكون من هيئات عديدة توزع اختصاصات العمل عليها جميعا، وكل من هذه الهيئات تخضع لغيرها من الهيئات الأخرى فى نوع اختصاص كل هيئة وهكذا، وعلم القانون لا يعرف إلا السلطات المقيدة، لأن كل سلطة تمارس عملا جزئيا وتخضع فى غيره إلى غيرها من السلطات وهكذا. ومن هنا يبدو موقف الكنيسة فى الشأن الذى سبق إثباته عجيبا، لأنه ينظر إلى الدولة بحسبانها كلا شاملا وإلى الكنيسة بحسبانها كلا شاملا مفارقا ومغايرا.
ولا شك طبعا أن أحكام الإنجيل تسرى فى العبادات على المسيحيين، ولكن الكنيسة أطلقت الأمر، فلم نعد نعرف ما الذى تقصده بالعبادات إلا ما تراه هى وما تقرره بواسطة البطريرك، كما لا نعرف ما هو حكم الإنجيل الذى تقصده فى كل حالة مخصوصة، إلا ما تراه هى وما تقرره بواسطة البطريرك، وهو سبق أن أنكر لائحة 1938 الصادرة من المجلس الملى والسارية فى عهد أربعة من البطاركة السابقين عليه وفى عهده هو التى لم يعدلها بتوقيعه إلا اعتبارا من يوليه 2008 على الحالات التالية، ومن ثم فإن الحديث كله يتعلق بسلطة الكنيسة وبشريعة يكون البطريرك هو من يصدرها ولا يلزم المسيحيين سواها.
ثمة صور أخرى صادف أن عرفناها من الصحافة فقد ذكر أسقف شبرا الخيمة الأنبا مرقس أنه فى «الإبراشية فى شبرا لا يستطيع الشاب أن يرتبط أو يتزوج دون أن يستخرج بطاقة انتخابية» ويذكر الأنبا بسنتى أسقف المعصرة وحلوان أنه فى إبراشيته يطالب من يريد الزواج بالحصول على بطاقة انتخابية ويأخذ عليه تعهدا باستخراجها سريعا، وقيل إن البطريرك أصدر تعليمات بهذا إلى الإبراشيات كلها (مجلة آخر ساعة 28/1/2005 ص12) وهدف ذلك السياسى واضح، وهو أن البطريرك بعد أن امتلك ناصية الغالبية الغالبة من القبط بغير منافس له عليهم، يريد أن يجعلهم قوة انتخابية تثقل موازينه لدى رئاسة الدولة فى انتخابات الرئاسة أو المجالس النيابية، ولكن ما أريد الإشارة إليه هنا هو أنه يضغط بوصفه الدينى المؤسس على القبطى الراغب فى الزواج ليحقق له هذه المكنة. ولم يعرف بأى حكم فى الإنجيل يجرى هذا الأمر وبأى تأويل لأى نص يعتبر ذلك فرضا كنسيا.
ونحن نعرف ما حدث لوفاء قسطنطين بعد أن أشهرت إسلامها فى أواخر سنة 2008، وأسلمتها سلطات الدولة المصرية للكنيسة، وغابت وفاء من يومها عن الحياة المشاهدة فى الوطن المصرى، وألقى بها فى غياهب ما يسمى بالأديرة أو بيوت التكريس.
وكلما ثار السؤال عنها يجيب البطريرك أو أحد أعوانه بقول ليس له ثان، وهو أنها مسيحية كما أثبتت ذلك أمام النيابة العامة ولم تعد ثمة مشكلة (على سبيل المثال حديث البطريرك للأستاذ عبداللطيف المناوى فى القناة الفضائية المصرية فى 27/9/2010) وإجابة البطريرك هذه هى عين ما يثير السؤال المهم وهو: هل مفاد كون المسيحى مسيحيا فى مصر أن تسيطر عليه أجهزة الأنبا شنودة فيختفى بين جدران مبانيها ولا يحق لمواطن مصرى من بعد أن يسأل عنه، لأنه بموجب مسيحيته قد صار بالحتم إلى تبعية أخرى غير التبعية المصرية العامة التى تجمع المصريين كلهم وتقوم عليها الدولة، إن هذه الإجابة السابقة تصدر عن موقف آخر بأن القبط شعب آخر يقوم عليه البطريرك وكنيسته دون سائر المصريين دولة ومواطنين.
وعلى سبيل المثال فقد نشرت صحيفة المصرى اليوم (فى 20/3/2008 ص6) خبرا مؤداه أن من تُدعى «المكرسة أغابى يوحنا» لقيت مصرعها فى أكتوبر السابق، فتقدم أهلها بشكوى أنها ماتت مقتولة بحريق عمدى بسبب اضطهاد الأسقف رئيس الدير وبعض المكرسات لها، ثم ذكرت الصحيفة: «البابا أغلق الموضوع نهائيا بعد أن حقق فيه بنفسه وتأكد أن كل ما يقال مجرد شائعات مغرضة» مشيرا إلى «أن الوفاة كانت طبيعية ونتجت عن حريق فى المطبخ». وهكذا فإن البطريرك يكون صار جهة تحقيق فى شبهة جريمة قتل لمواطنة مصرية فى دير، بما يشير إلى أن من المسيحيين فى الأديرة وبيوت التكريس من صار تحت سلطة البطريرك القضائية وليس تحت سلطة النيابة العامة التى نعرفها، وأن ما يحدث فى هذه الأماكن يستبد البطريرك وحده بالنظر فيه والتحقيق، ولو كان يتعلق بشبهة جرم جنائى بحق إحدى المواطنات.
ومن جهة أخرى، فنحن بلد لديه تعداد رسمى للمواطنين بمصر والقاطنين بها منذ مائة وثلاث عشرة سنة، من 1897، وأجرى خلال هذه الفترة اثنا عشر تعدادا شاملا، أجرتها الدولة المصرية فى عهودها المختلفة عبر هذه الفترة، إذ كانت محتلة من الإنجليز ثم مستقلة، وكانت ملكية ثم جمهورية ورأسمالية ثم اشتراكية ثم رأسمالية وتعددية ثم شمولية ثم بين بين، وقامت فيها من قديم ما سمى «مصلحة المساحة» قادها إنجليز وفرنسيون وأقباط مصريون ومسلمون مصريون، ويتولى التعداد الآن منذ عقود عديدة جهاز سيادى يعرف بالجهاز القومى للتعبئة والإحصاء، وهو جهاز سيادى لأنه من المفروض أن السياسات المصرية فى أوقات السلم والحرب والأزمات إنما تعتمد على ما يكشفه من معارف ومعلومات، فهو مفروض أنه يسهم فى إدارة الشأن المصرى فى كل نشاط.
هذا الجهاز قدر المسيحيين فى مصر إلى عموم الشعب من المواطنين بنسبة 6.3٪ فى سنة 1897، وبنسبة 6.4٪ فى سنة 1907، وبنسبة 8.1٪ فى سنة 1917، وبنسبة 8.3٪ فى سنة 1927، وبنسبة 8.2٪ فى سنة 1937، وبنسبة 7.9٪ فى سنة 1947، ثم تعدلت سنة الإحصاء لإدخال المزيد من الأساليب العلمية به، فجرى إحصاء تجربة فى سنة 1960 كانت النسبة فىه 7.3٪، ثم صارت 6.7٪ سنة 1966 فى التعداد العام الفعلى، ثم بنسبة 6.24٪ فى سنة 1976، ثم بنسية صارت إلى أقل من 6٪ فى تعداد سنة 1986، ثم امتنعت الحكومة فى التعدادين التاليين لسنتى 1996 و2006 عن إذاعة العدد ونسبته، بعد أن أثار أقباط المهجر لغطا واجهه النظام السياسى كعادته فى هذه الفترة الأخيرة بالتراجع والتكتم، والحاصل مما سبق أن خلال المائة والعشرين سنة الأخيرة، كانت نسبة الأقباط بمصر تدور حول 6٪ بأكثر قليلا أو أقل قليلا.
وهى تعدت هذه النسبة إلى ما يزيد على 7٪ أو 8٪ فى سنوات من 1917 إلى 1947 لان التعداد كان يشمل قوات الاحتلال البريطانى والجاليات الأجنبية، ثم عادت النسبة إلى ما كانت تدور حوله بعد جلاء القوات البريطانية وخروج كثير من الأجانب من مصر فى عهد ثورة 1952.
لكن البابا شنودة يذكر فى قناة OTV الفضائية فى 26/10/2008 «الكنيسة تعرف اعداد الأرثوذكس المصريين عن طريق كشوف الافتقاد التى تعد بمثابة تعداد داخلى لكل أسرة مسيحية بالكنيسة» ويذكر أن العدد هو 12 مليونا، ثم يقول: «نستطيع معرفة عدد شعبنا، ولا يهمنا العدد المعلن» (المصرى اليوم 27/10/2008)، وليس المهم هو الرقم المقول به، ولكن المهم هو طريقة البطريرك فى تناول الأمر بأنه يستطيع تعداد شعبه ولا يهمه «الرقم المعلن» وأن لديه أجهزة للتعداد لمن هم جزء من الشعب المصرى بمعزل عن الأجهزة المركزية ومع عدم الاعتراف بها، رغم أن قانون التعبئة والإحصاء والجهاز القومى للتعبئة والإحصاء إنما يعتبر الإحصاء والتعداد من الأمور التى لا تمارسها إلا السلطة العامة باعتبارها شأنا سياسيا لتعلقه بالشعب المصرى بعامة فى كل أنشطته وأوضاعه ويفرض عقابا جنائيا على من يمارس إحصاء عاما بشكل أهلى وبغير ترخيص من سلطة الدولة. والكنيسة بذلك وفيما يذكره تمارس شأنا للأقباط لا يتعلق بالدين ولكنه يتعلق بالمعنى الجماعى الدنيوى بحسبانهم جزءا لا يتجزأ من المصريين.
وكذلك، فإنه عندما طالبت الكنيسة بإعداد قانون للأحوال الشخصية لغير المسلمين يتفق مع مذهبها الذى تبنته أخيرا فى عدم التطليق إلا لسبب الزنا، ومن المفهوم طبعا أن صدور القانون بما يرد فيه من أحكام تكون اعماله فى المحاكم المصرية العامة التى يخضع لها المصريون جميعا، ولكننا وجدنا الأنبا بيشوى الرجل الثانى فى الكنيسة يطالب بأن «تراعى المحاكم المدنية أحكام المجالس الاكليريكية التابعة لرئاسة كل طائفة مسيحية فى مصر ورأيها الشرعى عند بحث أى قضية أحوال شخصية فى الطلاق أو البطلان».
وذكر: «أنا أقصد أن المحكمة تعتبر المجلس الأكليريكى لكل طائفة مكتب خبراء للأحوال الشخصية فى القضايا الخاصة بهذه الطائفة أسوة بالطب الشرعى» (المصرى اليوم حديث 24/6/2010 ص13) والواضح فى هذا الطلب أن الكنيسة تريد أن يكون رأيها فى أى قضية هو الرأى الملزم للمحكمة، وهذا بطبيعة الحال ليس شأن الطب الشرعى ولا أى خبرة فنية تبدى أمام المحاكم، لأن أية خبرة فنية رسمية أو غير رسمية تبدى أمام المحاكم، يكون للمحاكم السلطة فى الأخذ بها أو رفضها حسب اقتناع المحكمة، أو تعيين جهة خبرة أخرى، ولكن الأنبا بيشوى فى طلبه إنما كان يريد أن تكون المحاكم ملتزمة بما تنتهى إليه المجالس الأكليريكية، وهذا النظر يعود بنا إلى المجالس الملية ونظام الملة القديم، ويجتزئ من شمول سيادة السلطة القضائية بحسبانها إحدى سلطات الدولة الثلاث.
المفكر طارق البشرى / جريدة الشروق / 23 اكتوبر 2010
(الجزء الثاني من البحث)
(4)
كل ذلك يفيد بظهور إرادة سياسية لدى الإدارة الكنسية، تواجه بها سلطة الدولة وتحل محلها فى شأن الأقباط الأرثوذكس فى مصر. ونحن هنا لا نتجادل فى أمر يتعلق بعلاقة مسلمين بأقباط، إنما نتجادل حول شمول الجماعة المصرية لكل مشتملاتها، ورفض أن يوجد فى هذه الجماعة ما يفرز عناصر منها عن جمعها كله من حيث كونها جماعة سياسية.
وإن أهم ما يتصل بالجماعة الوطنية الواحدة أنها تقوم عليها دولة واحدة تنبسط سلطتها على الجمع كله، فإذا انحسرت سلطات الدولة بهيئاتها عن فريق من الجماعة تكون انشقت الجماعة ولم تعد تكوينا واحدا. وانه فى أى مجادلة بين شأن إسلامى وشأن مسيحى، إنما يكون معيار المواطنة هو ما يقوم به الجدل بحسبانه الجامع المشترك والموحد، ويكون التخاطب بالوصف الشامل وبما يتيحه من معايير وضوابط وقيم يتعين ان تنسبغ على الجماعة فى عمومها.
لا أريد أن أشغل القارئ كثيرا بأحاديث سابقة، إلا ما يسمح به المقام ليتبين الدلالة السابق الإشارة إليها عن معايير المواطنة الحاكمة للجماعة. وفى هذا الصدد أذكر أننى كنت أعددت دراستين نشرتهما، فى المجالات الدورية سنة 2004، ثم كانا مما جمعته فى كتاب صدر عن دار الهلال فى أبريل سنة 2005، وكلتا الدراستين كانتا تتعلقان بمسألة وفاء قسطنطين وما لابس ذلك من ظهور الإدارة الكنسية بمظهر من يمارس سلطة الدولة على بعض رعايا هذه الدولة من المسيحيين. وبهذا المنطق أنقل هنا عددا من العبارات أتت تعليقا على موضوع وفاء قسطنطين وتسلم الكنيسة لها وإيداعها فى منشآتها.
ان الكنيسة «بدت لدى الجميع متميزة تبغى الانفراد والعزلة والسيطرة»، وهذا أمر لم نعرفه قط فى العهود السابقة عن الكنيسة»، أنها تورطت فى تأكيد الخصومة مع عدد من أجهزة الدولة»، «إن نشاط الإدارة الكنسية فى هذه الفترة الاخيرة تجاوز فى العمل السياسى ما يمكن أن تصنعه الأحزاب السياسية» لأن الاحزاب السياسية تدعو إلى سياسات ولا تنفذها وتنشد الوصول إلى السلطة لكى تنفذ هذه السياسات من خلال أجهزة الدولة القائمة، ووفقا للخريطة الدستورية المرسومة،
أما صنيع الكنيسة فى الحالات المذكورة فهو أنها تنزع من سلطة الدولة بعضا منها أو تضغط على الدولة الضعيفة لتسلم إليها جزءا من سلطتها. والكنيسة القبطية لم تكن لها هذه السلطة قط حتى قبل مجىء الإسلام مصر (كتاب الجماعة الوطنية بين العزلة والاندماج، ص218، ص226 ــ 227)،
ثم هناك موضوع «تفرد الكنيسة وحرصها على أن تكون هى المؤسسة القبطية الوحيدة دون تكون أو تشكل قبطى مؤسسى آخر»، بمعنى أنها صارت إلى مصادرة الشأن القبطى واعتبرته شأنها لا من الناحية الدينية الاعتقادية التعبدية فقط، ولكن من الناحية الدنيوية الخاصة بالحكم وممارسة الشئون الحياتية اليومية (الكتاب السابق ص230 ــ 231).
والحاصل أن الدولة المصرية التى لم تتمسك فى سياستها الداخلية بشىء قط خلال الثلاثين سنة الأخيرة، إلا بمحاربتها للاتجاه الدينى فى السياسة، وتعاملت مع هذا الأمر بكل حزم وقسوة، قد سمحت بنشوء هيئة دينية قبطية وسمحت بتجاوز الهيئة القبطية النشاط الدينى إلى النشاط السياسى ثم تجاوز النشاط السياسى الحزبى إلى ممارسة بعض من شئون سلطة الدولة، وأن الدولة حرمت على المسلم السياسة رغم أن عقيدته تجمع بين الدين والسياسة، وأباحت للكنيسة العمل السياسى رغم ان عقيدتها تفصل بين الدين والسياسة، وحرمت السياسة على من ليس فى عقيدته رجال دين، وأتاحت السياسة لمن فى عقيدته رجال إكليروس (ص 246).
انا استشهد هنا بشهادتين لكاتبين متميزين معروفين تماما، احدهما صحفى سياسى لامع هو الأستاذ إبراهيم عيسى، والثانى روائى لامع ذو قلم سياسى ناضج هو الدكتور علاء الأسوانى، وكلاهما من جيل آخر تالٍ، وكلاهما ذو توجه وطنى وقومى يحتكم فى معاييره وتقديراته إلى معايير المواطنة والجامعة الوطنية ويصدر عن صالحها العام:
يذكر الأستاذ إبراهيم عيسى: «أن الأقباط الذين يرفضون تدخل الدين الإسلامى والشريعة الإسلامية فى الحكم يلجأون هم أنفسهم إلى شريعة وحزب الكنيسة، فالكنيسة هى أكبر حزب دينى فى مصر رغم أن شعارها رفض الحزب الدينى»، و«اختلط الأمر بين كون البابا شنودة زعيما روحيا للأقباط إلى كونه زعيما سياسيا»، «الأقباط الذين يرفضون الدور السياسى للمساجد هم الذين يحولون الكنائيس إلى ملاجئ سياسية واجتماعية للأقباط»،
وهم ينادون بفصل الدين عن الدولة وهم «أول من يدمجون الدين بالدولة حين يمنعون الدولة عن الاقتراب مما يعتبرونه شئونهم الدينية ثم هم يصبغون كل شئونهم بالصبغة الدينية» (الدستور 16/12/2008 ص3)، كما ذكر «أن البابا احتكر أقباط مصر للكنيسة ولشخصه طول السنوات الماضية، وساهم سواء بحضوره الطاغى أو بمواصفات الزعيم التى يمتلكها وبذكائه المؤكد فى تحول الأقباط إلى مواطنى كنيسة وليس شعب كنيسة، وتمازج دور الكنيسة الدينى ودروها السياسى» (الدستور 27/10/2008 ص1).
والدكتور علاء الأسوانى، بعد أن تحدث عما فى المجتمع من تفرقة لغير صالح المواطنين الأقباط، ذكر ان الأقباط إذ يعانون مما يعانى منه المصريون جميعا، إلا أن الناشطين منهم «يطالبون بتحقيق مطالب الأقباط بمعزل عن مطالب الأمة»، وأن «الاقتصار على المطالبة بها سلوك سلبى يخرج الأقباط من السياق العام للحركة الوطنية ويجعل منهم مجرد طائفة صاحبة مصلحة مستقلة»، ومع ما عبر عنه من تقدير عميق للأنبا شنودة ذكر «أعتقد أن الكنيسة فى الفترة الأخيرة قد تجاوزت دورها كسلطة روحية لتتحول إلى ما يشبه الحزب السياسى». (الدستور 20/8/2008 ص24).
(5)
ويبدو أن الأمر لا يقتصر على النزوع السياسى للكنيسة وممارستها بعض المظاهر التى لابد أن تحتكرها الدولة دون سواها فى أى مجتمع واحتكار الكنيسة لما يمكن أن نسميه الآن الجماعة القبطية. فقد ترددت فى الصحف أحاديث عن تنظيمات شبابية قبطية. وقد نشرت صحيفة صوت الأمة فى 13/3/2010 تحقيقا أعده عنتر عبداللطيف ومايكل فارس، ووصف شباب التنظيمات القبطية بأنهم «ميليشيات قبطية»،
ونشر عددا من الصور الفوتوغرافية لجماعات يرتدون قمصانا ملونة بعضها عليه رسم رأسين أحدهما بداخله صليب والآخر بداخله مسدس، بما يشعر بأن القبط فى خطر حربى على معتقدهم من غير القبط فى مصر، وورد بالتحقيق أن تنظيم «الأمة القبطية» الذى ظهر فى أوائل خمسينيات القرن العشرين كان شعاره «الإنجيل دستورنا»، وكان يهدف لتكوين أمة سياسية قبطية فى مصر منفصلة عن مسلميها، وبلغ أعضاؤه وقتها نحو 92 ألف عضو.
والآن يتبنى بعض شباب القبط ذات المبادئ أو بعضها وبلغ العدد نحو 300 ألف شخص، وان الحركات التنظيمية ما يعرف باسم «أقباط مصر أجل مصر» وان ثمة حركة تقوم على ثلاثة وجوه للثورة، ثورة روحية وفكرية وفعلية.
وثمة حركة منظمة هى «الكتيبة الطيبية» يرتدى أعضاؤها قميصا أسود عليه مفتاح الحياة الفرعونى، ومنظمة أخرى باسم «صوت المسيحى الحر» يرتدون قميصا بنى اللون عليه صليب كبير، وتنظيم باسم «الأقباط الأحرار»، وقيل إنها حركات لا تندمج مع المسلمين حفاظا على هويتها، وأن القمص متياس نصر منقريوس راعى كنيسة عزبة النخل هو أحد داعمى حركة «الكتيبة الطيبية» وأن المقصود بثورة الروح إيقاظ الروح القبطية القديمة «وأرواح شهداء الدين على اسم المسيح»،
والمقصود بثورة الفكر رفض فكرة الذمية والتأكيد على المواطنة، وبثورة الفعل «خروج الشباب القبطى للشارع» وأن الهيئة التأسيسية لحركة «أقباط من أجل مصر» تتكون من تسعة أعضاء ذكرت اسماؤهم، ومنهم عزيز الجزيرى، رئيس جبهة المليون لحقوق الإنسان، وأن الحركة هى وجه سياسى للأقباط، وان الحركات كلها توحدت بعد حادث نجع حمادى وهى تعد بالآلاف ومنها من بلغ عشرة آلاف عضو.
ونحن نلحظ فى هذا السياق، أن سياسة الكنيسة القبطية فى هذه المرحلة، لا تقوم على دمج القبط فى الجماعة الوطنية المصرية، وإنما على فرزهم ليصيروا شعبا لها، لا بالمعنى الدينى المتحقق فعلا، ولكن أيضا بالمعنى الدنيوى الحياتى المتعلق بتشكيل جماعة سياسية، جماعة قد لا أقول منفصلة، ولكنها جماعة متميزة ومنعزلة تشكل الكنيسة واسطة بينها وبين الدولة المصرية، وتكون متشكلة من جموع الأقباط فى مصر وتخضع لهيئة مؤسسة وحيدة هى الكنيسة، أو بعبارة أدق ما سبق أن سميته «الإدارة الكنسية» كهيئة متميزة عن الوظيفة الدينية للكنيسة، والبطريرك عندما يسأل عن مدى إمكان تولى القبطى رئاسة مصر، لا يقول مثلا إنه يتعين أن يسوى بين المصريين جميعا فى شرط تولى الرئاسة وإمكان ذلك بجامع المصرية، إنما يقول «لا يجوز ذلك لأن الأغلبية العددية مسلمة ولا يجوز ان يحكمها قبطى ليمثل الأغلبية العددية» (صحيفة الشرق الأوسط 27/7/2009)، فهو يتكلم بطريقة بعض الجماعات الدينية الإسلامية فى هذا الشأن، كما لو كان يستبطن معقولية الفرز الدينى عن الجماعة الوطنية والانفصال عنها.
وهو كثيرا ما يشير فى أحاديثه إلى ان العلاقات بين المسلمين والقبط «ليست طيبة فى مجملها»، ثم يقول: «قد يكون هناك علاقات صداقة وعلاقات طيبة بين مسلمين وأقباط، ولكن حين تأتى ساعة الاختيار فى الانتخابات فإن المسلم لن يختار القبطى مرشحا»، مكررا أن العلاقات بين جانبين وهى ليست طيبة (المصرى اليوم 28/1/2009 ص1)، وهو بذلك يتحدث عن واقع لا يسعى لتغييره ولا ينظر فى إمكانات تغييره ولا يستحضر أن مصر لم تكن كذلك فى عهود سابقة وعهود، كما هو يتحدث عنه كما لو أنه يريد أن يرتب على ذلك نتائج العزلة بحسبانها من طبيعة الأوضاع.
هذا المسلك الانسلاخى، يتعاصر مع شدة الحماس لدى الكنيسة والبطريرك والمتحدثين عنهما أو باسمهما من رجال الأكليروس للرئيس محمد حسنى مبارك وابنه جمال، وعملهم على الولوج، الصريح للحديث السياسى دعما للرئيس ونجله من جانب الكنيسة والقبط، ووعدا مدعما فى أى انتخابات أو منتديات سياسية مقبلة. وقد رأينا كيف لجأ بالبطريرك إلى الرئيس ليستخدم سلطته الفردية الاستبداية فى عدم تنفيذ أحكام المحاكم الصادرة من سلطة القضاء المستقل دستوريا عن الرئيس، ولإصدار ما يرى من قوانين ضغطا على السلطة التشريعية المستقلة دستوريا عن الرئيس كذلك («التماس البابا إلى الرئىس لرفع ظلم حكم المحكمة الإدارية العليا» صحيفة المصرى اليوم 8/6/2010)، وأحداث أخرى عن قوانين الأحوال الشخصية).
وهذا فى ذاته حسبما يظهر من العرض السابق، ليس انصياعا من الإدارة الكنيسة لسلطة الدولة المصرية بهيئاتها ومؤسساتها القانونية والدستورية، ولا يشكل اعترافا بهذه السلطة الشرعية على الكنيسة بوصفها هيئة مصرية من هيئات المجتمع المصرى الخاضعة للدولة، إنما هو نوع من استدرار الدعم الشخصى للرئيس بموجب ما يستبد به من سلطة فعلية منفردة لعقود ثلاثة من السنين، وهو نوع من الموالاة له للاستفادة من مراعاته الأوضاع الدولية ومن قبضته المسيطرة على أجهزة الدولة المصرية، الاستفادة من ذلك للمزيد من دعم الهيمنة الذاتية للكنيسة على شئون القبط والإفلات بهم من سيطرة مؤسسات الدولة وهيئاتها، استقلالا بشئون الأقباط.
(6)
الدول فيما نعلم هى جماع عناصر ثلاثة، فهى شعب على أرض عليه حكومة، أى أن ثمة سلطة سياسية ذات قرارات محددة تسرى على شعب فى نطاق أرض تمارس فيها هذه السلطة. وأنا طبعا لا أقول بظهور أشياء من هذا القبيل فى المجال الذى نتحدث عنه وبالمعنى الكامل الصريح، ولكن ما أشير إليه أن ثمة وجها من أوجه الزيادة والتراكم فى كل من هذه العناصر، فثمة تخليق لكيان سياسى ذى سلطة اتخاذ قرار على جماعة شعبية محدودة، وأن هذه السلطة تسعى إلى نوع وإلى درجة من درجات الحيازة لهذه الجماعة، وأن الإدارة الكنسية تعمل على ممارسة هذا الأمر وتوسعه، وأنها صارت ذات إرادة سياسية تنسلخ بها عن مؤسسات الدولة المصرية، قضاء وتشريعا، بادئه طبعا بالشأن الذى يمكن وصله بأمر دينى، وأن ما لم تمارسه فى ذلك تعبر عنه تعبيرا ظاهر المعنى وتتوجه به إلى من تعتبره شعبها ليشكل تكوينا واقعيا لديه.
إن هذا الوضع يعود بنا إلى نظام الملة الذى عرفه المجتمع الإسلامى قديما، بحسبان أن طائفة ما هى ما يدير شئون نفسه بنفسه بواسطة من تراهم من رجالها، حسب التنظيم الداخلى الذى تفرضه عليهم الاعراف المتبعة لديهم، وهو يعزل هذه الجماعة عن جمهور الناس فى البلد الذى يحيون فيه، إنه نوع من الإدارة الذاتية لشئون هذه الجماعة بلا أرض متميزة تسكنها وتقيم عليها. وهو لا تتاح له أرض محددة تكفى لتقيم فيها الجماعة الشعبية المعينه، ولكنه يحتاج «لأماكن» محدودة لا لإقامة الجماعة أو الجمهور، ولكن لتكون مجالا مكانيا لتمارس فيها سلطة صاحب القرار، بحيث ينفرد صاحب القرار بالنفوذ والسطوة عليها.
ولقد جاهدنا جهادا تاريخيا ــ بمسلمينا ومسيحيينا ــ على طول القرنين التاسع عشر والعشرين، لكى نتجاوز نظام الملة وننشئ الجماعة الوطنية المصرية بما يكون لدولتها من هيمنة على جميع المواطنين بها وبالتساوى فى المعاملة، سواء فى الشئون الخاصة أو شئون الولايات العامة. ولقد جاهد المسلمون منا فى التجديد فى الفقه الإسلامى بما يسع مفهوم الجماعة الوطنية وأوضاع المساواة الكاملة فى الولايات الخاصة والعامة وفى فرصها، وإن اختلفت الأديان.
وبعد ان استقر هذا الوضع كأصول ثابتة فى الفكر السياسى السائد لدى النخب المعبرة عن الرأى العام الفعال والفكر الراجح لديه، فوجئنا من بعض القائمين على الادارة الكنسية، بمن يريد العودة من جديد لنظام الملة ويسنده إلى أسس إسلامية يراها جديرة بالاتباع. وهذا ما سبقت الإشارة إليه فى الفقرات السابقة.
على أى حال، فثمة ما يتعين متابعته بالنسبة لما يسمى بعنصر الأرض فى القانون الدولى، ما نسميه بعنصر «المكان» فى نظام الملة. ونحن نعلم استحالة تحيز المسيحيين من أهل مصر فى إقليم معين، لأنهم منتشرون وشائعون بين المصريين جميعا فى محافظات مصر ومدنها وريفها، ولأن أكبر كثافة مسيحية فى أى إقليم لا تزيد أو تدور بين الربع والثلث فى قلة من الوحدات الإدارية، والأرض هنا لا تفيد حصرا جغرافيا لجماعة دينية فى أى من أقاليم مصر، ولا يبقى إلا أماكن يمكن أن تمارس منها السلطة السياسية وتدار الشئون.
ونحن نعرف أن وفاء قسطنطين احتجزت وأودعت فى أحد أديرة وادى النطرون، كما ذكر ذلك بعض رجال الكنيسة انفسهم فى سنة 2004، وان كاميليا فى سنة 2010 (سواء كانت أسلمت أو بقيت على مسيحيتها فهى مواطنة مصرية) أودعت أيضا أحد هذه الأمكنة. وفى هذا ممارسة لسلطة سياسية، أو بالأقل سلطة إدارية، وكلاهما من الناحية القانونية يعتبر سلطة عامة ليست مخولة للكنيسة فى النظام المصرى.
ونحن نعرف مثلا أن دير ماريوحنا الكائن بصحراء طريق القاهرة والسويس عند الكيلو 30 والبالغة مساحته مائة فدان، تبث منه قناة أغابى الفضائية ويحتوى على أماكن إدارتها، كما خصص فيه مساحة أربعة أفدنة لمركز إعلامى مزمع إنشاؤه، وان القناة الفضائية CTV التى انشأها رجل الأعمال الأستاذ ثروت باسيلى وكيل المجلس المللى، تبث برامجها من خلال كنيسة العذراء مريم بمدينة السلام.
(مجلة الإذاعة والتليفزيون 11/7/2009 ص38، مجلة آخر ساعة 3/6/2009 ص36)، وهى قنوات يقتصر البث منها على البرامج الدينية، ولكن وجه الملاحظة ان إدارة الإعلام ومراكزه والمقار التى يبث منها، هى أمور إدارية لا تتعلق بالجوانب العقائدية والعبادية التى تمارس فى الكنائس والأديرة، ومع ذلك أودعت هذه المهام بدور العبادة لتكون تحت السيطرة الكنسية المنفردة.
وإن الملاحظ ان الأديرة تتوسع فى حيازة الأرض الصحراوية أو المستصلحة وضمها إليها فى نطاق أسوار الدير، وهذا ما حدث مثلا لدير الأنبا انطونيوس على ساحل البحر الأحمر إذ استحوذ على 1500 فدان ضمت ضمن أسواره.
وكذلك دير طريق مصر السويس وغيرهما كدير الساحل الشمالى. ولكى أوضح ما أريد ذكره، فإن الدير أو الكنيسة شأن أى منهما كشأن أية هيئة مصرية، لها أن تحوز وأن تمتلك ما رخصت به القوانين المصرية لامتلاك المصريين له وبالحدود والضوابط التى وضعتها هذه القوانين وتحققها جهات الإدارة التى تتولى الإشراف على هذا الأمر، فإذا اختلف أحد مع هذه الجهات فيما يعتبره حقا له فى امتلاك أرض ما، كان سبيله إلى المحاكم متاحا لاستخلاص ما يطالب به بعد ان يبذل جهده فى تقديم ما يثبت للمحكمة أحقيته. ولكننى هنا اعرض للأمر من ناحيتين، أولهما هى كيف تتعامل الكنيسة فى هذا الأمر مع أجهزة الدولة وهيئاتها، وثانيهما الماهية القانونية للنشاط الذى تريده الكنيسة وحدوده. وهذا ما أثارته متابعة أحداث دير «أبوفانا» بالمنيا.
وقبل الحديث عن دير «أبوفانا» أذكر واقعة عاصرتها شخصيا عندما كنت رئيسا لإدارة الفتوى للزراعة والإصلاح الزراعى واستصلاح الأراضى بمجلس الدولة فى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. وكان من عملنا الاشراف القانونى على تطبيق القانون رقم 100 لسنة 1964 بشأن أراضى الدولة، والقانون رقم 143 لسنة 1981 بشأن الأراضى الصحراوية، وما يفيده من امتلاك أى من الأفراد والهيئات ما يكون استصلحه أو أقام عليه منشآت قبل تاريخ معين، والمشرف على ذلك هو الهيئة العامة للتعمير والتنمية الزراعية، فإذا اختلف معها طالب الملكية رفع دعواه أمام لجنة قضائية مختصة بذلك، وعندما تقضى اللجنة يحال حكمها إلى مجلس الدولة لدينا للنظر فى سلامته القانون وعرض الأمر على جهة التصديق على قرار اللجنة. وفى هذا السياق عرض علينا بمجلس الدولة قرار اللجنة عن مساحة كبيرة كان «دير أبومقار» طالب بها لأنها تحت حيازته بدليل ما بها من منشآت مسيحية كالصوامع والقلايات القديمة.
استوقفنى ما ذكره محامو الدير فى دفاعهم إثباتا لملكية الأرض، أن بها صوامع وقلايات منذ خمسة عشر قرنا، ورجال القانون يعرفون انه إذا حاز شخص أو هيئة خاصة أرضا حيازة هادئة مستقرة ظاهرة بغير نزاع خمس عشرة سنة يحكم له بملكيتها، والقانون 143 سالف الذكر يكفى فيه إحياء الأرض الموات بمنشآت أو زراعات قبل آجال حددها حتى يحكم بالملكية الخاصة.
ولكن ما استوقفنى هو القول بأنها خمسة عشر قرنا، لأن الخمسة عشر قرنا لا تولد حقا خاصا لفرد، إنما تولد حقا لشعب، والشعب هو الشعب المصرى جميعه، لأن الحق هنا ليس مجرد حق قانونى بل هو حق سياسى، و«المنشآت» هنا تعتبر ملكا للشعب كالأهرام ومبانى الأزهر ومبنى مسجد السلطان حسن ومبانى القلعة وهكذا فهى آثار، والآثار لا تباع ولا تشترى ولا تملك ملكية خاصة، إنها ملك عام خارج عن مجال التعامل فى ملكيتها.
وكان هذا هو ما ينظمه قانون الآثار المعمول به وقتها والصادر فى سنة 1951، وهو صريح العبارات فى كل ذلك. لم أرد أن انفرد برأيى فى هذا الشأن فرفعت دراسة به إلى هيئات الافتاء العليا بمجلس الدولة وناقشته مع زملائى فيها، وانتهينا جمعيا إلى عدم جواز تملك هذه المنشآت لخضوعها لقانون الآثار وبحسبانها ملكا عاما خارجا عن إطار التعامل، والحكومة هى من يشرف عليها.
المفكر طارق البشرى / جريدة الشروق / 24 اكتوبر 2010
(الجزء الثالث من البحث)
(7)
يرد بعد ذلك الحديث عن «دير أبوفانا» بمحافظة المنيا، والمسألة فيما ذكرت الصحف أن الدير ادعى ملكية أرض صحراوية خارج الزمام نحو ألفى فدان (صحيفة الجمهورية 5/8/2008 ص1)، وإنه شب النزاع حول هذه الأرض مع قبائل من العرب فى المنطقة، كل يدعى حيازتها كلها أو بعضها، وهيئات الدولة المختصة لم تكن اعترفت بملكية أى من الطرفين للأرض بعد،
والجهة المختصة حكوميا بذلك هى الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية، طبقا للقوانين المنظمة للأراضى الصحراوية خارج الزمام (خارج الزمام حسبما يعرفها القانون هى الأراضى التى لم تفرض عليها ضريبة عقارية بعد وتقع على بعد كيلومترين منها). وقد شب النزاع بين رجال الدير والأعراب وبلغ حد الاشتباك فى 31/5/2008. وأصيب نحو سبعة أفراد وقتل أحد الأعراب.
فتحركت المحافظة بحسبانها الجهة الإدارية المحلية المختصة، وجمعت اطراف الخصومة ومعهم ممثلو الهيئات الحكومية ذات الصلة بالموضوع، وتدخلت النيابة العامة بالنسبة للشق الجنائى من الأحداث، وجرى اجتماع مهم فى 18/6/2008 برئاسة المحافظ وحضره فضلا عن الأنبا ديمتريوس اسقف ملوى والوفد المرافق له وفضلا عن عدد من الاعراب، حضره ممثلون عن وزارة الداخلية ومباحث أمن الدولة والحزب الوطنى والمجلس الشعبى للمحافظة وهيئة التعمير والتنمية الزراعية وقطاع الآثار وهيئة المساحة والشهر العقارى وإدارة الأملاك.
أنا أقصد بذكر هذا التعداد التفصيلى بيان ماهية الدولة فى مصر، انها كل أولئك وأكثر كثيرا منهم، وهى ليست شخصا رئيسا كان أو محافظا أو وزيرا، ولكنها هيئات وإدارات ومصالح متخصصة كل منها فى نوع نشاط معين، وعندما تجد الحاجة يتحرك الجهاز المختص بنظرها حسب نوع النشاط الممارس، وفى صدد مسائل الأراضى الصحراوية، تتزاحم عليها احتياجات لجهات شتى حسب طبيعة قطعة أرض، ثمة حاجات للقوات المسلحة، وللآثار، وللمناجم والمحاجر، ثم يرد بعد ذلك موضوع التعمير والتنمية.
ويبدو مما اتيحت مطالعته مما كنت جمعته من صحافة الفترة ذاتها ومما اتيح نشره من خطابات متبادلة بين محافظة المنيا والأسقفية، يبدو أن الكنيسة والدير كانا يتعاملان مع الدولة بحسبانها كلا واحدا، ولم يكونوا يتعاملون مع كل جهة من جهات الحكومة حسب نوع الطلب الذى يطلبونه وحسب نوع تخصص الجهة الحكومية التى تنظر فيه، فمثلا اجتمع المجمع المقدس برئاسة الأنبا بيشوى (كان البطريرك فى طريقه لأمريكا للعلاج) وتوجه الجمع إلى رئيس الجمهورية رأسا ببيان يحمل ستة مطالب مجمعة، وهى الإفراج عن المحتجزين (يقصد الرهبان الذين اشتبكوا مع الأعراب)، والقبض على الجناة (يقصد الأعراب الذين اشتبكوا مع الرهبان)، واستظهار الصورة الحقيقية للواقعة واتفاق الجناة مسبقا وجمع تفاصيل الوقائع، وبناء سور للدير يشمل الآثار والمزرعة، وتعويض الدير عن التلفيات والمسروقات، والبيان موجه إلى رئيس الجمهورية لضمان «السلام الاجتماعى» (صحيفة الدستور 3/6/2008 ص1). فالبيان هنا يحمل مطالب مجمعة، منها ما يتعين عرضه على النيابة العامة بشأن الافراج والقبض والتحقيق، ومنها ما يتوجه إلى هيئة التعمير، ومنها ما يتوجه إلى المحافظة، ومنها ما يتوجه إلى الأشخاص المعتدين بشأن طلب التعويض.
ولكن بيان المجمع المقدس الممثل للكنيسة القبطية لم يتعامل مع الأمر بحسبانه من رعايا الدولة المصرية، فيتوجه بكل طلب إلى الجهة المختصة بنظره والبت فيه، انما تكلم إلى رأس الدولة مباشرة بجميع ما يطلب، كأن المجمع أو الكنيسة شخص «خارجى» عن الدولة فيتخاطب معها ممثلة فى رئيسها، وباعتبار ان علاقته بالهيئات المختلفة لا تكون الا من خلال الرئيس الأعلى، ويتأكد هذا المعنى بما بقيت تصر المطرانية عليه من طلب الاستجابة للمطالب الستة مجتمعة (صحيفة الدستور 14/6/2008 ص1)،
وبعد اجتماع المحافظة فى 18/6/2008 السابق الإشارة إليه، شكل المحافظ لجنة لإزالة ما رأته الأجهزة من تعديات للدير على أرض لم يعترف له بعد بحيازتها وملكيتها، فذكر الأنبا ديمتريوس اسقف ملوى بأن البطريرك اصدر قرارا من أمريكا «بوقف تعامل الكنيسة ومطرانية ملوى مع اللواء أحمد ضياء الدين محافظ المنيا» (صحيفة المصرى اليوم 2/6/2008 ص1) وهكذا يرفض المواطن التعامل مع ممثل سلطة الدولة، بدلا من ان يلجأ إلى قضاء هذه الدولة فيما لا يرضيه من تصرفات المحافظ أو أى من الأجهزة الأخرى، وقد صاحب هذا التصريح اعتصام 75 من رهبان دير أبوفانا و60 من شباب القبط، ولما ترسمت حدود الدير ذكر الأنبا ديمتريوس انه يرفض التعامل مع المحافظ مع «عدم الاعتداد بقراراته» (المصرى اليوم 6/2008 ص1).
وبذات المنوال فى التعامل، يقرر البطريرك الموافقة من بعد على استئناف «مفاوضات أبوفانا» يذكر محامى المطرانية «كان الخروج بقرار بناء السور (للدير) وحماية الرهبان» (المصرى اليوم 13/8/2008 ص1) ثم «صعد رهبان دير أبوفانا بملوى محافظة المنيا موقفهم من مفاوضات التصالح وانهاء الأزمة، وذلك بعد يوم واحد من الإعلان عن إلغاء المؤتمر» (المصرى اليوم 16/8/2008 ص1)، وهكذا تتصل الكنيسة بأجهزة الدولة من خلال مؤتمر ومفاوضات، وقد جرى الاتصال بالبطريرك فى أمريكا لتقنين أرض الدير وبناء السور، وكانت المفاوضات وصلت إلى الإقرار بملكية الدير لما يزيد على خمسمائة فدان (المصرى اليوم 18 و19/8/2008 ص6 و3)، وجرى ما يسمى بوضع حدود الأرض لبناء السور على الدير بما يشمل المبانى والآثار والمزرعة (المرجع السابق 20/8/2008 ص3، والدستور 21/8/2008 ص14)، وانتهى الأمر بحصول الدير على 552 فدانا وموافقة المحافظ وتسليم الأعراب والبدء فى بناء السور.
ثم ظهرت بوادر ما كانت تسميه الصحف «أزمة أبوفانا» حول بناء السور، وقد كان ثمة سور من الحديد والسلك الشائك حول الدير وبعض أرضه، فأرادت المطرانية ان تستبدل به سورا حجريا يشمل الدير والأرض الزراعية، وأرسلت بذلك خطابا للمحافظة فى 4/7/2008، فلما تحددت الأرض رأت المحافظة ان يكون السور الحجرى الذى تطالب به المطرانية بارتفاع متر ونصف المتر، ولكن المطرانية اصرت على ان يكون ارتفاع السور أربعة أمتار (المصرى اليوم 1/9/2008 ص1).
وقد ذكر الأستاذ عيد لبيب، أحد رجال الأعمال وأحد المفاوضين فى هذه الفترة من الجانب القبطى وكان همزة وصل بين البطريرك فى مشفاه فى أمريكا وبين المفاوضين فى مصر، ذكر ما معناه انه كان يحرص على بناء السور على حسابه الشخصى ثم عدل عن ذلك وقال: «كنت فاكر السور يتكلف 200 أو 300 ألف فقط، لكن علمت انه سيكون بطول 12 كيلومترا وارتفاع 4 أمتار وعرض 50 سنتيمترا، وهو ما يكلف أكثر من 10 ملايين، ولو دفعت النفقات سأصبح فقيرا».
(صحيفة صوت الأمة 8/9/2008 ص2). من الواضح ان سورا بهذا الارتفاع فى منطقة صحراوية لا تجاورها مبان سكنية عالية أو منخفضة، لا يمنع التسلق فقط ولكنه يمنع الرؤية أيضا، وهو يشمل خمسمائة وخمسين فدانا خارج الزمام، ولم تجر العادة ان تحاط الأرض الزراعية بأسوار حجرية. ولكنه نوع من «الإفراط فى الحرص على الخصوصية»، نسميه كذلك متبعين طريقة أحمد لطفى السيد إمام مؤتمر سنة 1910 من وصفه التشدد القبطى فى مواجهة الجماعة الوطنية بأنه «إفراط فى التضامن» وكلا التعبيرين يفيد العزلة.
ثم يجىء الحديث فى اطار النظر القانونى، فنحن نعرف ان الدير يعتبر شخصا اعتباريا فى المفهوم القانونى، وهو تابع للبطريركية والكنيسة، وهى شخص اعتبارى وليس شخصا آدميا، والشخص الاعتبارى له ممثل قانونى وفقا لنظام تأسيسه يعبر عنه ويتصرف باسمه، وليس البطريرك ولا المطارنة ولا الرهبان ما يعتبرون به أشخاصاً يمارسون التصرفات فى الكنيسة وهيئاتها بوصفهم أصلاء عن أنفسهم وانما هم يمثلون الكنيسة أو إحدى هيئاتها،
والشخص الاعتبارى بالمنطق القانونى يمارس تصرفاته القانونية فى اطار الغرض الذى أنشئ من أجله، وتنحسر شخصيته القانونية عن أى تصرف أو ممارسة أى حق أو التزام يكون بعيدا عن الغرض الذى انشئ من أجله، والكنيسة بهذا الوصف الاعتبارى للشخصية القانونية، يكون لها سائر التصرفات وتلقى الحقوق فى حدود الغرض العبادى والعقائدى والتعليمى والدعوى الذى تقوم عليه شخصيتها الاعتبارية، والقول إنه يجوز لها ان تملك أرضا زراعية كالقول إنه يجوز للأزهر أن يمتلك أرضا زراعية أو يقيم مصنعا للأسمنت، وكالقول إنه يجوز لوزارة الخارجية أن تمارس أعمال الاستثمار العقارى، أو أن شركة المحلة للغزل والنسيج تعمل فى نشاط المناجم والمحاجر.
(8)
أتوجه بهذا الحديث إلى من يقرؤه من جمهور المصريين، المسلمين والأقباط، وأضعه فى إطار الجماعة الوطنية الكافلة للمزج بين المصريين كافة، وأنا عندما أضع الأمر فى إطار الموقف من الدولة، إنما أضعه بحسبان أنها هى المؤسسة أو الهيئة الممثلة والمعبرة عن هذه الجماعة والموكول إليها إدارة شئونها، والدولة ليست رئيسها ولا فردا فيها، إنما هى كما ذكرت فى الصفحات السابقة هيئات وتشكيلات وهى تتكون مما يمكن أن نعتبره عينة شائعة فى المصريين، وأن أى مشكل يتعلق بالتكوين العضوى لها من المصريين جميعا، مسلمين وأقباطا وغيرهم، لابد أن يحل باستقامة ونزاهة من أجل المساواة التامة بين المصريين جميعا، ولن يحل أبدا بمعزل عن التعامل معه،
وإن كان ثمة نقص فلنعمل على إكماله، وإن كان ثمة قصور فلنعمل على تفاديه، وإن كان ثمة فساد فلنعمل على إصلاحه، ولكن لا ننعزل عنه، ولا أقصد بذلك أشخاصا ولا نظاما سياسيا ولكن أقصد هيئاته ومؤسساته وأجهزته العضوية، بل لنعمل على إنقاذ هذه الهيئات والمؤسسات والتكوينات العضوية من براثن السيطرات الفردية والنظم غير الصالحة، ولا نوحد بينهم لأن أجهزة إدارة الدولة المصرية التى أقصدها هنا بهيئاتها الفنية وقوانينها السياسية ونظامها القضائى وخبراتها الفنية المتخصصة وشتى مجالات إدارة الشأن العام، إنها نتيجة جهود بناء مؤسسى وثقافى تراكمى عمره قرنان من الزمان.
إن تصريحات المسئولين عن الكنيسة القبطية بمصر فى الآونة الأخيرة، والتصريح بعدم الخضوع للقوانين وللقضاء المصرى إلا ما كان موافقا لما تراه الكنيسة رأى المسيحية فى كل حالة، إن من شأن ذلك على مدى زمن ما إن يخرج جماعة من المصريين من مجال الجماعة الوطنية العامة، كما أن الاستشهاد فى هذه التصريحات الانعزالية بفقه الشريعة الإسلامية،
إن ذلك من شأنه أن يعيد نظام الملة إلى سابق عهده، وهو يخرج عن مفهوم المواطنة الذى نرفعه عبر أجيال مضت وتجىء ونقيمه على أسس نظرية وشرعية يقوم بها الاندماج الحياتى بين المصريين جميعا. لقد بذلنا الجهود ليتسع الفقه الإسلامى لاستيعاب مفهوم الجماعة الوطنية بالمساواة الكاملة بين مكوناتها، فإذا جاء اليوم فى تصريحات هؤلاء المسئولين ما يعيد نظام الملة،
فعلينا أن نوضح للجميع أن ليس هذا فى صالحهم وإذا كانت الكنيسة القبطية، كما عبر عن ذلك بعض مسئوليها، تشتكى من نشاط بعثات التبشير الأمريكى بين اتباع الأرثوذكسية المصرية، فعليهم أن يدركوا من ذلك أن السياسة الأمريكية، إن بدا فيها ما يؤيد موقف الانعزال القبطى فى مصر، فهى إنما تريد من ذلك الأثر المفكك للجماعة الوطنية وليس محض الصالح القبطى، لأنهم بطريق آخر يعملون على خلخلة التماسك الأرثوذكسى القبطى بالتبشير بين أبنائه وليس هذا الموقف جديدا. وإن الرجوع إلى نشاط البعثات الأمريكية فى مصر منذ منتصف القرن التاسع عشر شاهد على ذلك (يراجع كتابى (عن المسلمين والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية)، وإن أمن قبط مصر هو بين ذويهم فى مصر..
ألا هل بلغت اللهم فاشهد والحمد لله
المفكر طارق البشرى/جريدة الشروق/25 اكتوبر 2010