بقلم- عبدالرحمن سعد: لا شك أن ماضي مصر والمصريين يبعث علي الفخر والاعتزاز، لكن ما قيمة هذا الماضي إذا كنا متخلفين عن أمم الأرض في الحاضر، وعاجزين عن اللحاق بركب الحضارة في المستقبل؟ ورد هذا السؤال إلي ذهني، وأنا أنصت إلي خطبة الجمعة بمسجد عمرو بن العاص يوم11 يناير2013، التي ألقاها الداعية السعودي الدكتور محمد العريفي، والتي حركت مدامع عشرات الآلآف من حضورها، إذ تناولت مآثر مصر علي العالم، ومناقبها بين أمم الدنيا.
لكن الماضي يظل تاريخا، بينما العبرة بالحاضر، والمستقبل، فمصر الحاضر تعاني من التخلف العلمي، والتراجع الحضاري، دون أن ينفعها مصر الماضي حيث فضلها علي العالم. حديث الكثيرين عن مصر التاريخ مهم ولكن الأهم تحليل لماذا فقدت مصر ريادتها الحضارية، ولم يعد لها تأثير يذكر علي المستوي العالمي.
إن الكلام الجميل عن الماضي لا يكفي وحده لتجاوز سوء الحاضر، بل لابد من الانطلاق إلي المستقبل مستلهمين عبقريتنا السابقة، ومستعينين بعوامل أري أنها تقف وراء تقدمنا قديما، وستصنعه حديثا، ومنها: الاستمساك بالدين، والاعتماد علي الذات، وحسن توظيف القدرات، وشيوع روح التكافل بين أبناء الأمة، وأخيرا: نشر ثقافة التحلي بالإخلاص، والتجرد لله. والموقف الإيجابي من الدين هو العامل الأول في صنع النهضة المرتقبة للأمة المصرية. فالتاريخ يقول إن مصر لا يمكن أن تنهض أبدا إلا علي رافعة من الدين.
اعتماد مصر علي نفسها، وإمكاناتها، هو العامل الثاني في صنع النهضة المصرية، ذلك أنها دولة عصامية طوال تاريخها، يأكل أبناؤها من خيرها، ويجري المجد علي جباههم من عرق أجسادهم، لذلك ظلوا دائما يرفلون- كما حدثنا القرآن- في جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، لم يفقدوه طوال تاريخهم، بل تركوه للأجيال جيلا وراء جيل، لأنهم كانوا ينتجون أكثر مما يستهلكون، ويزرعون أكثر مما يأكلون، ويغيثون الآخرين أكثر مما يغاثون.
أما العامل الثالث في التقدم المصري المرتقب فهو حسن التخطيط، وبراعة الإدارة، وتوظيف الطاقات، واستثمار القدرات، وتدبير الإمكانات، الذي صبغ المصريين طوال تاريخهم، بصبغة الرشاد والحكمة.. فوجدنا المصري دائما الشخص المناسب في المكان المناسب، ومن هنا نبغ المصريون، وظهر بينهم ناجحون وعظماء ملأوا الدنيا علما ونورا.
روح التكافل بين أبناء الأمة كانت عاملا آخر أسهم في صنع تقدمها عبرالتاريخ.. فالمصريون لم يعرفوا الخصومات العنيفة، ولا الخلافات العميقة، وإنما كانوا دائما روحا ودودا تسري بأبدانهم وقت المحن، فتشد من أزرهم، وينتشر بينهم العطف والحنو وإيثار الآخرين، وإكرام الضيف والغريب والأسير، ويقفون: بعضهم إلي جانب بعض، انطلاقا من تلك القوة الاجتماعية التي صبغت سلوهم، وصهرت أخلاقهم، فاشتهروا، من صعيدهم حتي إسكندريتهم، بإغاثتهم للملهوف، ونجدتهم للمحتاج، وغوثهم للمكروب، وقيامهم بحقوق الآخرين دون انتظار مقابل.
وخامسا: جسد الإخلاص والتجرد لله خلقا شاع بين المصريين حتي قيل: اعمل الخير، وألقه في البحر.. وهكذا يقع علي عاتق الطليعة المصرية أن تبذل أغلي ما تملك، وأن تقدم الأسوة والأنموذج، في العمل الدءوب لنفع الآخرين، بتجرد كامل من الهوي، والغرض.
إنها أخلاق المصريين التي جعلتهم يوما سادة العالم، فأشاد بهم الدكتور العريفي، وغيره من المنصفين .. والآن: جاء وقت الانطلاق بالحلم المصري في النهضة والريادة إلي الأمام، ولن يتحقق ذلك إلا باستدعاء هذه القيم، واستحضار المصريين لها، فالعالم ينتظرهم. والحمد لله أنهم لم يتغيروا سلبيا سوي بشكل سطحي، وأنه يسهل استعادتهم إلي مجدهم..وإنهم لقادرون علي ذلك.
المصدر: جريدة الأهرام
التاريخ: الثلاثاء 17 من ربيع أول 1434 هـ 29 يناير 2013 السنة 137 العدد 46075
الرابط: http://www.ahram.org.eg/Issues-Views/News/197311.aspx