بقلم-عبدالرحمن سعد: لنعد إلى نقطة البداية، ونتساءل: هل خرجت الثورة المصرية من رحم الصحافة أصلاً؟ الواقع أن الصحافة المصرية تخلفت عن ركب الثورة مرتين: الأولى عن صنعها..ذلك أن مَنْ أشعلها هم المدونون، وأنها خرجت من رحم صفحات الإنترنت، وأبرزها صفحة "كلنا خالد سعيد"، فضلا عن مواقع التواصل الاجتماعي، التي تبنت الدعوة للتجمع يوم 25 يناير 2011(اليوم الوطني للشرطة)، للتظاهر للمطالبة بحقوق الشعب.
وحتى عندما اندلعت الثورة، وشقت طريقها وسط الأمواج العاتية؛ لم تكن الصحافة معيناً للثورة على أن تحقق مطالبها، وأن تصل للغاية منها، وإنما يصح أن يُقال إنها صارت عبئا عليها، نتيجة عدد من المعالجات غير المسبوقة، التي خالفت أبسط قواعد المهنة، وانحرفت عن المعايير الموضوعية، وضربت -في أحيان كثيرة- عُرض الحائط بمواثيق الشرف.
لذلك لم يكن غريبا أن يرفع الثوار، منذ الأيام الأولى للثورة، في ميدان التحرير، شعارات تقول :"الشعب يريد تطهير الصحافة"، ويضعون صور عدد من الصحفيين الموالين للنظام السابق في خانة "أعداء الشعب".
وكان "التسييس" أبرز خطأ وقعت فيه الصحافة المصرية، بل رأينا من الصحفيين من يمارس العمل السياسي في الوقت الذي يقدم فيه نفسه على أنه صحفي، مع أنه منخرط في الحدث السياسي، وجزء منه!
وفي تفسير ذلك لوحظ -في أعقاب الثورة- غياب رؤية استراتيجية أو "تقدير موقف" لأولويات المرحلة، إذ لم يضع كثير من الصحف رؤية استراتيجية لكيفية التعاطي مع الثورة، من حيث الثوابت والمتغيرات، مما جعلها تتسبب في حالة من الانفلات الصحفي، والتناقض الموضوعي، فتارة تتبنى موقفاً، وفي وقت لاحق تتبنى عكسه، وهكذا جاء الأداء مضطرباً، والأفكار مُشوشة، والمعالجات عشوائية، تتغير يوماً بعد يوم، بحسب تطورات الصراع السياسي، عبر المراحل الانتقالية.
وكان العاصم من ذلك، الاستمساك بالاحتياجات الفعلية للشعب، بمعنى أنه كان يجب أن تضع الصحف الاحتياجات العادية للمواطن نُصب عينيها.. وتلك الاحتياجات لم تكن سياسية فقط، بل كانت -في الجانب الأعظم منها- اقتصادية اجتماعية ثقافية وقانونية .. لكن الصحافة انشغلت بالجانب السياسي؛ ففقدت البوصلة، وتأثرت بالتيارات المختلفة، بحكم سياستها التحريرية، وطبيعة مالكها، وظروفها الداحلية، وبنيتها الهيكلية، فأخذت تتخبط دون شطآن، وتسير على غير هدى.
وكان الدواء اعتماد النظرية الإعلامية التي تنادي بإبراز: "الأكثر أهمية أولاً"، على أن تكون لدى الصحف قائمة أولويات (Agenda Setting) بشكل لحظي، ويومي، ودائم.
وقد ترتب على وقوع الصحافة المصرية في فخ الاستقطاب السياسي عدم الالتزام بنقل الحقائق المجردة، والأخبار دون خلطها بالآراء، والآراء بتوازن وإنصاف، بل رأينا معالجات منحازة، وتغطيات غير موضوعية، ومقالات أقرب إلى الكيد السياسي، ونشر للشائعات، وإلصاق للأكاذيب بالخصوم، والتنفيس عن الهوى والغرض، وعدم الالتزام بالنقد البناء.
وقد ظهر هذا الاستقطاب واضحاً في تغطية الأحداث التي ينبغي فها تعظيم الإرادة الشعبية، كالاستفتاءات الدستورية والانتخابات البرلمانية والرئاسية، واللحظات التي اقتضت لزوم الحيدة والإنصاف، كالصراعات بين القوى والأحزاب والتيارات المختلفة، إذ لجأت صحف إلى الانحياز لرؤية على حساب رؤية أخرى، وانساقت لفصيل دون فصيل، بل رأينا صحفاً زجت بنفسها طرفاً في المعركة الدائرة، تحرض، وتهيج، وتكذب، أو تنافق، وتؤيد، وتمالئ.
وتزامن مع ذلك خطأ آخر وقعت فيه الصحافة المصرية بشكل مجمل هو عدم الاهتمام بالإعلام التنموي، إذ لم تحظ بالاهتمام الكافي قضايا مثل : الفقر والمهمشين ومحدودي الدخل، وضرب القدوات والنماذج والمُثُل المضيئة، وتقديم الحلول للمشكلات، والتركيز على البحث العلمي، والأفكار الجديدة والخلاقة، والمساعدة في إحداث أكبر قدر من التوافق بين الأحزاب والقوى المتصارعة، والوقوف إلى جانب دعم الجهاز الأمني في مواجهة الانفلات، والإسهام في بلورة أجندة وطنية، تضع قائمة أولويات ينتظرها الشعب، وعدم الانشغال بالتفاصيل الصغيرة عن القضايا الكبيرة، علاوة على تبني مبادرات إدارة الحوارات بين الفرقاء، وجمع الأمة على القواسم المشتركة، والترويج لمفهوم التعايش السلمي، وعدم إقصاء الآخر، وتقديم الرؤى النقدية المتوازنة للقوى كافةً، وحفظ الدماء، وعدم الدعوة للعنف والتحريض.. إلخ.
وعلاوة على ما سبق تجاهلت صحافة ما بعد الثورة -إلا قليلاً- الولوج للأعماق في معالجة الأحداث والوقائع، وسيطر عليها نزوع نحو الاستسهال، والسطحية، وعدم تقديم التفاصيل، وما يجري وراء الكواليس، وهو ما يُعرف ب "الصحافة المسطحة"، التي تكتفي بالقشرة الخارجية، والشغل "من على السطح" فقط، بعيدا عن النزول للميدان، اكتفاءً بالعمل من المكاتب، دون بذل جهد كاف لاستبصار الخفايا والأسرار، مما أدى إلى ارتكاب أخطاء مهنية فادحة، أبرزها التناقض والارتباك في بناء القصص والمعالجات الصحفية ذاتها.
وأدت رغبة الصحافة في جذب القارئ لمادتها، وحسم المنافسة الصحفية لصالحها، تحت أي وضع وظرف؛ إلى الجنوح للإثارة الزاعقة؛ خاصة في العناوين، بعيداً عن القواعد الموضوعية، والأسس المهنية، من أجل إشباع شبق البحث عن سبق أو انفراد، حتى لو كان على حساب الحقيقة، أو الدقة، أو بتلوين الحدث أو تسييسه أو ابتساره بشكل فج، مخل.
ومع هذا التغييب المتعمد للإيجابيات، واستسلام معالجات شتى للروح السلبية؛ بدأ تضخيم ظواهر سلبية، وُجدت بالفعل بعد الثورة، كظواهر البلطجة، وضعف أداء جهاز الشرطة، والارتباك الاقتصادي، ومعاناة الطبقات الكادحة، والنزوع نحو العنف، والتردي الأخلاقي.. إلخ.
في مقابل ذلك كان هناك اهتمام محدود للغاية بالتركيز على تقديم الحلول والرؤى، والتبشير بالنماذج الخلاقة، والطاقات المبدعة، كجهود شباب الثورة في المحافظات والأقاليم، للنهوض بالمجتمع، ورسم خارطة طريق لآفاق الخروج من الواقع البئيس، والاهتمام بالمشاريع الكبرى لبناء الوطن، والمبادرات الشعبية والأهلية لتحسين الخدمات، والارتقاء بمستوى الصحة والتعليم والطرق ومياه الشرب، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح والمنتوجات، ودعم الإنتاج الحربي.. إلخ، مع انعدام الاهتمام ببث روح "التفاؤل" في النفوس، كأولوية صحفية.
ولأن "الحرية أساس المسئولية"، كما جاء في ميثاق الشرف الصحفي الصادر عام 1998؛ يجب علي الصحفيين المصريين الالتزام بواجبهم الوطني في عدم الوقوع في دائرة الاستقطاب السياسي، وتجنيب الوطن خطر ترويج الأكاذيب والشائعات، والامتناع عن نشر الدعوات العنصرية، والتحريش بين أبناء الوطن، وبث الفتن بين مؤسساته، والتنميط الخاطئ للأشخاص والهيئات، فضلاً عن الامتناع عن إضفاء الشرعية علي أي انقسام سياسي.
ومن الواجب الوطني للصحافة كذلك التحلي بالنزاهة، وانتفاء الغرض، وتجنب تعارض المصالح والانحياز والهوي، وتحري المصلحة العامة، وأن يراعي العاملون فيها تقاليد المهنة، وآدابها، وفي الوقت ذاته : أن ينأوأ بأنفسهم عن أن يكونوا طرفا في أي خصومة سياسية، أو خلافات مجتمعية، وأن يحرصوا علي نقل الحقائق كاملة دون تشويه أو اجتزاء أو افتراء، مستهدفين جمع الصف، ووحدة الكلمة، وبث الأمل، في نفوس أبناء الوطن جميعاً.
وفيما يتطلع الصحفيون إلي الاستجابة لمطلبهم بإلغاء الحبس في قضايا النشر، يجب علي نقابة الصحفيين أن تضطلع بدورها في ضمان تقديم أداء إعلامي رشيد ومسئول، يلتزم بقواعد المهنة ومعاييرها، ويُفَعِل ميثاق الشرف، ويحاسب الخارجين عليه، ويقدمهم إلي التأديب، طبقا للإجراءات المحددة المنصوص عليها بقانوني النقابة، وتنظيم الصحافة، حفاظاً على شرف المهنة، وسمعة العاملين بها
المصدر: الأهرام
التاريخ: الأحد 19 من جمادي الاول 1343 هــ 31 مارس 2013 السنة 137 العدد 46136
الرابط:
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/201297.aspx