1079204   عدد الزوار
Loading...
me@arsaad.com
 |   |   |   |   |   | 
 
  ***  اغتيـال بحيرة: دماء علـى ميـاه "المـنزلة"..التحقيق الفائز بجائزة التفوق الصحفي ج:1   ***  مغامـرة صحفيــة في أنفاق غزة   ***  الحُلم الإسلامي في "إيمانيات الدولة من وحي الثورة"   ***  حاجتنا إلى آداب سورة "الآداب"   ***  جريمة خلف المحكمة الدستورية‏   ***  عندما تذوب المسئولية
 
ÇáÃÑÔíÝ ãÞÇá Çáíæã
الفَأْل والعَمَل.. من "صَفًر"
9/24/2020

      

بقلم: عبدالرحمن سعد 

شاء الله، سبحانه وتعالى، أن يجعل الشهر الثاني في العام الهجري "صَفَرَ"، محلًا لتصحيح العقائد الباطلة حول الزمان، والنهي عما ارتبط به من تشاؤم، عبر دعوة قرآنية ونبوية إلى نبذ معتقدات الجاهلية بأنه شهر "نَحْسٍ"، والتحلي بالفَأْل (كل قَوْل أو فِعْل يُسْتَبْشَر به)، والأخذ بأسباب السلامة والنصر، ما يجعل منه فرصةً متجددةً لتصحيح الحياة، وتحسين الظن بالله، وتحقيق جناحي ارتقاء الأمة: إيمانها بالله، وعملها الصالح.

فقد بدأ النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذا الشهر، هجرته المباركة من مكة، وقاد أول غزوة هي "الأبواء" أو "وَدَّان". وفيه أيضًا تزوج من خديجة، وزوَّج ابنته فاطمةَ لعلي، وفتح خيبرَ، وجهز بعثًا لغزو الروم، قبل وفاته بأيام، في رسالة واضحة إلى الأمة، بأن "صَفَر" كغيره من الشهور: هو شهر: "الفأل والعمل".

يعود اسم "صَفَر" إلى "الخُلُو". ومنه: "إناء صُفْر وصَفْر وصَفِر، وقد صَفِرَ صَفَرًا وصَفارة". ("أساس البلاغة" للزمخشري)، حيث ارتبط لدى العرب في الجاهلية بخلو مكة (إصفارها) من أهلها، إما لخروجهم طلبًا للميرة والطعام إذا سافروا، أو طلبًا للقتال والغزو، وبالتالي: ترك من لَقَوا "صِفْرًا"، أي: "خلواً من المتاع والمال". ("لسان العرب" لابن منظور). ولهذا ساد التشاؤم بينهم.. في هذا الشهر!

تشاؤم ينافي حقيقة الإيمان، القائم على التوحيد الخالص لله، ونبذ الشرك والكبائر. فالمؤمن الحق لا يتطير، ولا يتشاءم، بل يحسن التوكل على الله، كما أخبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، أصحابه، أنه عُرضت عليه أمته, وكان فيهم سبعون ألفًا، "يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب"، وذكر من صفاتهم الأربع أنهم: "وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ". (متفق عليه).

ولقد تجلَّت في "صَفَر" دعوة القرآن الكريم إلى تعظيم حُرمة الشعائر والقربات، واعتبر الله، تعالى، تبديل ذلك: "زيادة في الكفر".

قال تعالى: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ".(التوبة:37).

حرَّم الله، تعالى، "النَّسِيءَ"، لقبح ما يؤدي إليه من التحايل على الشعائر والشرائع، وهو مأخوذ من "نسأتُ الشىء" إذا أخرتُه. ومن ذلك أن العرب شقَّ عليهم فى الجاهلية أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية من دون إغارة، فكانوا يستحلون القتال في "المحرم"، ناقلين حُرمته إلى "صفر"، بحسب هواهم وحاجتهم، فلما جاء الإسلام ثبَّت الأول في موضعه، وحرَّم استبدال الثاني به، في القتال وغيره من المحرمات.

إلا أن أهل الجاهلية لم يكتفوا باستحلال المحرم وتحريمه في صفر، إذ ظنوا بالأخير الظنون، وساد بينهم التشاؤم منه، كما سلف ذكره، فكانوا لا يعتمرون، ولا يتزاوجون، ولا يعقدون بيعًا أو شراءً فيه؛ معتقدين أنه شهر المصائب والنكبات، استنادًا إلى أنه يأتي بعد ثلاثة أشهر "حُرُم" يتوقف فيها القتال، كأنه الشهر الذي سيأتي إليهم بما ينغص عليهم حياتهم، بالحروب والويلات!

هذا الظن السوداوي، وما ترتب عليه من سلوك تشاؤمي؛ ليس غريبًا على البشرية، حتى اليوم، إذ تنتشر بين بعض شعوبها خرافات وأوهام تتعلق بأرقام أو أيام أو حيوانات.. إلخ، يرمونها بالنحس، وربما عطلوا جانبًا كبيرًا من حياتهم بسبب التشاؤم منها!

من هنا جاء النهي النبوي عن تلك الاعتقادات الباطلة، والخزعبلات الفاسدة، لا سيما في شهر صفر (ساحتها السنوية)، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَال: "َلا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ. قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ". (متفق عليه).

 وفي الصحيحين أيضًا، قَال رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ، وَلَا صَفَرَ". (متفق عليه).

وينفي هذان الحديثان، وحديث: "فمَن أَعْدى الأوَّلَ" (رواه مسلم)؛ ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تلك الأمور الأربعة.

(لَا عَدْوَى) أي: لا ينتقل المرض من مريض إلى صحيح إلا بقدر الله وقضائه وإذنه ومشيئته، وليس لسبب راجع إلى طبيعة المرض نفسه.

 (وَلَا طِيَرَةَ). أي لا اعتقاد في التشاؤم بحركة أي شئ حول المرء. وقد كانوا يراقبون الطيور فإن اتجهت يمينًا أقدموا على العمل، وإن تحركت يسارًا أحجموا! فنهاهم الله، تعالى، عن ذلك.

وقد سبقهم إلى تطيرهم هذا أقوام آخرون كقومي فرعون وصالح وأصحاب القرية.

(وَلَا هَامَةَ) إما أنها "البومة" إذ كانوا يعتقدون أنها تنقل الشؤم إلى بيت أحدهم إذا وقعت عليه، أو أنه الميت تصير عظامه هامة، أي تنتقل روحه إلى أجساد حيوانات أخرى من غير بعث ولا نشور، وهو اعتقاد فاسد، أبطله الإسلام وحاربه.

(وَلَا صَفَرَ) قيل: داء في البطن. وقيل: إنه الشهر. وهنا نفي نبوي أن يكون "صفر" سببًا في هذا المرض أو له تأثير بذاته في مجريات الأحداث، إذ إنه "خلق الله"، ووعاء الزمن.

والأمر هكذا، أراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقول للعرب، حال انتقالهم من الجاهلية إلى الإسلام، ولمن سيأتي من بعدهم، إن "صفر" وغيره من الشهور، لا يختص بمذموم، ولا محبوب، وإن خيره أو شره إنما يكون بما أودعناه فيه، وهو ما أثبتت الأحداث صحته، إذ شهد فتوحات مشرقة للمسلمين، ولو كان التشاؤم به صحيحًا لما حدثت.

ولعلَّ من أهم هذه الانتصارات مغادرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، في ليلة 27 من صفر لسنة 14 من بعثته، بيته في مكة، مهاجرًا إلى الله، تعالى، قادمًا المدينة في شهر ربيع الأول. ("الرحيق المختوم" للمبارك فوري)، وفي ذلك ما فيه من تدريب الأمة على الأخذً بالأسباب.

سابقًا شهد "صَفَر"، عقب خمس وعشرين منه، زواج الرسول، صلى الله عليه وسلم، من السيدة خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، ولاحقًا، في صفر من العام الثاني للهجرة: زواج ابنته فاطمة، رضي الله عنها، من ابن عمه علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما. ("السيرة النبوية" لابن كثير).

وفي الشهر والعام ذاتيهما، خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سبعين من أصحابه لاعتراض عير لقريش حتى بلغ وَدَّان، بعد أن أذن الله للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم، فكانت فاتحة الجهاد، في ما عرف ب"غزة الأبواء"، أو وَدَّان، وهي أول غزوة غزاها، صلى الله عليه وسلم. "ولم يلق كيدًا".("دلائل النبوة" للبيهقي).

كذلك شهد "صفر" فتح خيبر (تهذيب سيرة ابن هشام)، وصلح الرسول، صلى الله عليه وسلم، مع أهل نجران (سنن أبي داود)، وغزوة ذي أمر (بين بدر وأحد، في صفر سنة ثلاث للهجرة)، وسرية قطبة بن عامر بن حديدة (صفر سنة تسع من الهجرة)، وإسلام الصحابة: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة؛ رضي الله عنهم، في صفر سنة ثمانٍ من الهجرة.

وفي صفر لأربع ليال بقين منه سنة إحدى عشرة للهجرة، وقبل وفاته بأيام، أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وعقد اللواء بيده المباركة لأسامة بن زيد، في ما عرف لاحقًا ب"بعث أسامة". (المقتفى من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم).

ولأنه لا دخل للزمن في ما قدَّره الله تعالى، فقد شهد "صَفر"، في المقابل، أيضًا، عددًا من الأحداث المأساوية، في حياة المسلمين، أبرزها بصفر سنة أربع للهجرة، إذ غدر قوم من "عَضَلٍ والقَارَةِ" بعشرة من أفقه الصحابة، في ما عرف ب"بعث الرجيع"، أبرزهم: خُبَيْب بن عدي، وزيد بن الدَّثْنَة.

كذلك وقعت حادثة بئر معونة، في الشهر والسنة ذاتيهما، بعد أربعة أشهر فقط من أحد، وقد غُدر فيها، هذه المرة، ليس بعشرة، وإنما بسبعين من فقهاء الصحابة.

روى البخاري عن طريق قتادة، عن أنس: أن رعل وذكوان وعصيّة وبنى لحيان استمدّوا رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، على عدوّهم، فأمدّهم بسبعين من الأنصار، وكنّا نسمّيهم القرّاء، لأنّهم كانوا يحتطبون بالنهار، ويصلّون بالليل، حتّى كانوا ببئر معونة، فقتلوهم، غدروا بهم، فبلغ النّبيّ، صلى اللّه عليه وسلم، فقنت شهرًا، يدعو في الصّبح على رعل وذكوان وعصيّة وبنى لحيان.  

أخيرًا، بدأ وجع النبي، صلى الله عليه وسلم، في مرض موته، يوم السبت لاثنتين وعشرين ليلة من صفر، سنة إحدى عشرة هجريًا، بينما كانت وفاته يوم الاثنين العاشر لليلتين خلتا من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة. (صحيح مسلم).

أما على مستوى التاريخ الإسلامي فقد كانت معركة صفين وحادثة التحكيم في شهر صفر أيضًا سنة سبع وثلاثين للهجرة، إذ التقى علي، رضي الله عنه، وصحبه، بمعاوية، رضي الله عنه، ومؤازريه، في صفين، ودام القتال بينهم أيامًا.

وبينما نستعرض الفتوح والانتصارات، في "صَفَر"؛ لا يصح، في المقابل، المبالغة في تقدير "خيريته"، كأن يصفه البعض بأنه "صفرُ الخير"، إذ أفتى العلماء بأن ذلك اعتقاد باطل يكافئ الاعتقاد بشؤمه، مؤكدين أن لا دخل لصفر، في صنع الأحداث، وأنه ليس سببًا، ولا مسؤولًا، عن أي انتصار أو انكسار فيه، بل المقادير بيد الله، يصرِّفُها كيف يشاء، في أي شهر.

قال تعالى: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ".(الحديد: 22).

وبينما أجمع علماء الإسلام على أن اعتقاد شؤم هذا الشهر هو اعتقاد فاسد، فإنهم - استنباطًا من كتاب الله تعالى، وحديث رسوله، صلى الله عليه وسلم - أجمعوا أيضًا على أن "الشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى، فكل زمان شغله المؤمن بطاعة الله هو زمان مبارك عليه، وكل زمان شغله بمعصية الله هو مشؤم عليه".(لطائف المعارف لابن رجب).

وأضافوا أن الأصل في الجزاء والحساب نية الإنسان وعمله، وأن العمل الصالح ساحته الشهور، وعنوانه الصادق: الإخلاص. قال تعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا". (الكهف:110).

وفي الختام، يجب على كل مسلم، إذ رأى ما يكره، أن يردد، ما ورد عن النبي،  صلى الله عليه وسلم، في الحديث: "َعنْ عُرْوَةَ بْنِ عامِر، قَالَ: ذُكِرتِ الطِّيَرَةُ عِنْد رَسُولِ اللَّه، صلى الله عليه وسلم، فقَالَ: أحْسَنُهَا الْفَألُ، وَلا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإذا رَأى أحَدُكُمْ ما يَكْرَه فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لا يَأتي بالحَسَناتِ إلا أنتَ، وَلا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلا أنْتَ، وَلا حوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِكَ".(رَوَاهُ أبو داود بإسنادٍ صَحيح).

 

تعليقات القراء
الإسم
البريد الالكترونى
التعليق
 
     ما رأيك فى شكل الموقع ؟
  
هذا الموقع يعبر عن الآراء والأفكار الخاصة بصاحبه ولا ينحاز لأى فئة أو هيئة أو مؤسسة
جميع حقوق النشر محفوظة للكاتب الصحفى عبد الرحمن سعد